كيفية معالجة الحقوق القومية والطائفية في سوريا الجديدة؟

عبدالله تركماني

يتكون الشعب السوري من مكوّنات قومية وطائفية عديدة، مما يستوجب الإقرار الدستوري بالحق الثقافي لمختلف هذه المكوّنات. ولعلَّ هذا التنوّع من المشكلات التي ينبغي الاعتراف بوجودها، بغية البحث عن مخارج لها، بعد أن عمل النظام البائد طوال الـ 54 سنة، على تجييرها لديمومة بقائه في السلطة وتوارثها، من خلال نزع صفة المواطنة عن السوريين وتحويلهم إلى رعايا.

كما أنّ السنوات الأربع عشرة للثورة كانت كاشفة لتمزّق النسيج الوطني، مما يؤكد ضرورة الانتقال إلى بيئة قانونية في سوريا الجديدة، تضمن الحقوق لكل مكوّنات الشعب السوري، من خلال إعادة بناء الدولة السورية، استناداً إلى الشرعية الدستورية والرضا المجتمعي. وذلك على قاعدة الديمقراطية وحقوق الإنسان، والاعتراف بالتعدد القومي والطائفي، والتفاعل فيما بين كل المكوّنات لما يخدم الحرية والتقدم والسلام الأهلي والعيش المشترك.

ويشير البيان الختامي لمؤتمر “وحدة الموقف والصف الكردي” المطالب باللامركزية من دون تحديد مضمونها، أهي سياسية أم إدارية؟ أهي على أساس جغرافي أم قومي؟ إلى أنّ ثمة أزمة مكوّنات قومية، تهدد أسس العيش المشترك وفرص استمرار وحدة الأرض السورية، بل يعطّل إمكانية انبثاق هوية سورية جامعة. وفي هذا السياق، ليس جديداً القول: إنّ المسألة الكردية هي أحد الأبعاد الأكثر إشكالية في مسألة الهوية السورية الجامعة. ويعود ذلك إلى أنّ النظام البائد قد روّج إلى أنّ الوجود الكردي في سوريا طارئ، وأنّ معظم الكرد قدموا من تركيا واستقروا في شمال شرقي سوريا.

وقد ترتبت على هذا التصوّر رؤية سياسية خاطئة مفادها أنّ الأكراد طارئون على النسيج الوطني السوري، وتجسد هذا التصوّر بحرمان عشرات آلاف الكرد من الجنسية السورية. وهكذا، ساد مفهوم “فوبيا الانفصال الكردي”، إذ بمجرد أن يطالب الكردي السوري بأدنى حق يُتهم بالانفصالية، ويُحكم عليه بأنه يسعى إلى تقسيم البلاد واقتطاع جزء منها. ولا شك أنّ الربط بين المسألة الكردية واللامركزية السياسية يهدف إلى المزيد من خلط الأوراق وتعقيد المسألة السورية.

وطالما أنّ المفاهيم هي نتاج الواقع الاجتماعي الذي يتسم بالتنوّع، فإنّ السؤال المطروح في الواقع السوري: هل يمكن الحديث عن حق تقرير المصير لمكوّنات الشعب السوري المنتشرة في عدة محافظات ولا يوجد ترابط جغرافي بين مناطق توزعها؟ خاصة إذا علمنا بتصادم مبدأين مرجعيين أساسيين في العقل السياسي الحديث، المستند إلى القانون الدولي (القرار 2625 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 1970) الذي يعطي الحق في تقرير المصير للشعوب وليس إلى مكوّن قومي أو طائفي في شعب ما، بما يضمن الوحدة الإقليمية للدولة ضمن حدودها المعترف بها. فلو أنّ كل المكوّنات في الدول، استنادًا إلى تاريخها وثقافتها الخاصين، تطالب بالانفصال عن الدولة، فإنّ هذا يعني تفتيت الدول القائمة.

إنّ تعدّد المكوّنات في دولة ما ينطوي على احتمالين: أولهما، فرصة للغنى الثقافي، الذي يسهم في تقدم الدولة وازدهارها. وثانيهما، مصدر لتحديات التوتر والنزاعات، مما يجعل الدولة ضعيفة وقابلة للانفجار والتقسيم. وهنا تبرز طريقة قيادة المرحلة الانتقالية في إدارة الدولة كعامل رئيسي في ترجيح أحد الاحتمالين، فإذا كانت تعمل على حماية مبدأ التنوّع ضمن إطار الوحدة، وتضمن الحريات الفردية والعامة والمساواة أمام القانون. في هذه الحالة يكون التنوّع والتعدد فرصة لتوظيف إمكانيات كافة مكوّنات الدولة في سبيل التنمية والتقدم والازدهار.

وهكذا، تقوم الحقوق القومية والطائفية للمكوّنات السورية على المبادئ الأساسية التي أقرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان “الاعتراف بالكرامة الإنسانية المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية، وبحقوقهم المتساوية والثابتة”، وضمانة هذه الحقوق تكمن في قيام دولة الحق والقانون.

إنّ الأمر يبقى مرتبطًا بممارساتها، إذ إنّ الإقصاء والتمييز السياسي والاجتماعي بين المواطنين، على أساس التعبئة القومية والطائفية، كما حصل مع إخوتنا العلويين في الساحل والدروز في جرمانا وصحنايا مثلاً، يمهدان الطريق أمام الصراعات الداخلية. وعلى العكس من ذلك، فإنّ السلوك الإيجابي للسلطة تجاه مواطنيها كافة، يمكن أن يتحول إلى ميزة إثراء وتقدم للدولة والشعب بكل مكوّناته.

وهكذا، تقوم الحقوق القومية والطائفية للمكوّنات السورية على المبادئ الأساسية التي أقرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان “الاعتراف بالكرامة الإنسانية المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية، وبحقوقهم المتساوية والثابتة”، وضمانة هذه الحقوق تكمن في قيام دولة الحق والقانون. واستناداً إلى هذه الحقوق فإنّ سوريا في المرحلة الانتقالية يجب أن تعترف بتنوّع مكوّناتها، وتضمن حقوقهم وفق الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، وتحترم حقوقهم الثقافية، مستندة إلى المرتكزات التالية:

إنّ الرابطة الوطنية السورية، التي أنتجتها تجربة تاريخية مشتركة يزيد عمرها عن قرن من الزمن، وعززها الكفاح من أجل الاستقلال الوطني، والعمل المشترك من أجل بناء الدولة الوطنية الحديثة، والنضال المشترك ضد النظام الاستبدادي التسلطي، تسمح برؤية السوريين شعباً واحداً، محافظاً على وحدة الأرض السورية، بضمانة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، بما يعزز إعادة البناء ونبذ الاقتتال الداخلي، وتأمين لحمة السوريين على اختلاف أعراقهم وانتماءاتهم في بوتقة الوطن الموحد.

سوريا دولة متنوّعة قومياً وطائفياً، جميع مواطنيها متساوون في الحقوق والواجبات من دون أي تمييز، بما فيها الحقوق المدنية والسياسية، مع الاعتراف لمكوّناتها بحق الاختلاف في مجال القيم الثقافية، مع اعتبار أنّ توحيد المرجعية القانونية شرط لازم لتوحيد المجتمع، واكتساب منجزات الحداثة السياسية وتمثّلها على صعيد المجتمع.

تعدُّ اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وتتمتع جميع المكوّنات القومية، غير العربية، بحقوق استخدام لغاتها في الكتابة والنشر وإصدار آدابهم، واستخدامها في التعليم، في المناطق التي يشكلون فيها أكثرية عددية، كلغة ثانية إلى جانب اللغة الرسمية، مع حقها في إنشاء مؤسسات خاصة بها لتأمين كل فعالياتها الثقافية.

يجدر بقيادة المرحلة الانتقالية عدم تسخير السلطة لصالح هوية قومية أو طائفية معينة على حساب باقي الهويات، كما عليها أن تتخذ التدابير اللازمة، في برامج التعليم، من أجل معرفة الأجيال الجديدة بتاريخ مكوّنات مجتمعها المتنوعة.

في ظل صراع الهويات القائم اليوم، وكذلك المقتلة السورية التي عصفت بسوريا، أصبح السوريون في حاجة ماسّة إلى عقد اجتماعي جديد، ينقلهم إلى الحالة الوطنية الجامعة. وهذا يستدعي انخراط جميع المكوّنات في عملية صياغة هذا العقد، كي يجري الحديث عن الدولة السورية الواحدة، أرضاً وشعباً.

اعتماد مبدأ التشاركية في السلطة، حيث يتم تمثيل جميع المكوّنات فيها، بما يتناسب مع تعدادها السكاني، استناداً إلى مبدأ الكفاءة وليس مجرد المحاصصة. ومن المؤكد أنّ تمثيل هذه المكوّنات في كل الهيئات الانتقالية تجسيد لهذه التشاركية، لضمان مساهمة جميع مكوّنات الشعب السوري في الانتقال من الاستبداد إلى الدولة السورية الديمقراطية الجديدة.

إطلاق سيرورة الاندماج الوطني، أي وحدة التعدّد والاختلاف، بما يأخذ المجتمع السوري بعيداً عن التشظّي والانقسام، وبما يساعد على إعادة بناء دولة المواطنين السوريين المتساوين في الحقوق والواجبات.

لعلَّ مشروع اللامركزية الإدارية الذي سنعود له في مقال قادم، يساعد على الازدهار الاقتصادي والتنمية المتوازنة بين المناطق، إضافة إلى مساهمته في تماسك سوريا كوحدة جغرافية تقطع الطريق على الانقسام والتشتت.

وهكذا، فإنّ مشروع هذه الأسس يجب أن يحظى برضى أغلبية السوريين، ومعترف به من قبل القوى الإقليمية والدولية ذات التأثير على المسألة السورية. ومثل هذا المشروع سيسهم في وقف النزيف السوري، وبناء مستقبل سوريا الغد في إطار التعددية والديمقراطية، كما سيسهم في الازدهار الاقتصادي لسوريا، وضمان تماسكها كوحدة جغرافية تقطع الطريق أمام التقسيم والتشتت، وسينطوي المشروع التوافقي على ضمان الحقوق لكل المكوّنات السورية.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى