اللغة السياسية ، وأزمات الدولة والسلطة العربية

نبيل عبد الفتاح

النظرات التحليلية للاختلالات الهيكلية للدولة العربية ما بعد الاستقلال، تشير إلي بعض من الخلط بين معنى الدولة ، والنظام ، والسلطة الحاكمة، وجهاز الدولة البيروقراطى الموروث من مراحل لاحتلال الغربي. هذا الخلط والتشوش ليس قاصرًا على اباء الاستقلال وخلفاءهم ومن انقلبوا عليهم وعلي مابعدهم  إلى المرحلة التاريخية الراهنة، وقد تتمدد  مستقبلًا في عالم ستتغير مفاهيمه الموروثة من مرحلة القوميات والدولة الأمة والحداثة السياسية ومابعد بعدها .  لا شك أن هذا الإدراك الجمعي اللاواعى بهذه المفاهيم المؤسسة  –وقلة هى الواعية بذلك- لا يقتصر على الطبقة السياسية المسيطرة فى الحكم –آيا كان تكوينها واصولها الاجتماعية، والمهنية والوظيفية -، وإنما هو جزء من الوعي الجمعى، بقطع النظر عن اسم الدولة، ورمزياتها، والجغرافيا السياسية التى تحددت بعد اتفاقية سامكس بيكو 1916 –بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الامبراطورية الروسية وإيطاليا، عى اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا، وتحديد مناطق النفوذ فى غرب آسيا، وتقسيم الدولة العثمانية التى كانت مسيطرة عليها فى الحرب العالمية الأولى-، والدول العربية الآخرى التى كانت جزءًا من الجغرافيا السياسية للاستعمار البريطانى، والفرنسى، والإيطالي.

كان الخطاب السياسى العربى ما بعد الاستقلال شغوفًا ومولعًا بتوظيف بنية إصطلاحية مستعارة من المتن الإصطلاحي واللغوي الأوروبي مثل الدولة، والقومية / الوطنية ، والاستقلال ، والسيادة، والسلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية ، وفصل السلطات ، وسيادة القانون ، واستقلال القضاء ، والحريات العامة وعلي رأسها حرية الرأي والتعبير ، وحرية الأعتقاد مطلقة ..الخ ، وذلك على نحو استثنائى، كجزء من الثقافة  واللغة ومجازاتها السياسية ما بعد الكولونيالية، وازدادت، وتكثفت استخدامات اللغة والمفاهيم/ المصطلحات ، ومجازاتها، مع حركات التحرر الوطنى العالم ثالثية أثناء الحرب الباردة.

كانت هذه االآلة الإصطلاحية ، ومعانيها جزءًا من منظومة  اللغة ،  والمجازات السياسية، فى غالبُ الدول العربية، وخطابات قاداتها السياسيين. كان الهدف الرئيس هو إنتاج حالات من التماسك الداخلى، وبناء موحدات رمزية حول الدولة فى تركيبات اجتماعية انقسامية، وإنتاج تعبئة سياسية واجتماعية حول زعاماتها ، ومفهوم الدولة المستقلة.

كان الواقع الاجتماعى الموضوعى، والانقسامى، والوعى الجمعى، مختلفًا، وخاصة فى ظل أبنية للقوة، لم تكن سوى تعبيرًا اجتماعيا وسياسيا عن الاصول الاجتماعية –العرقية، والقبائلية، والعشائرية، والأثنية، والدينية والمذهبية، والمناطقية واللغوية- لقادة الاستقلال ، ومراكز القوة التابعين حولهم، ومن ثم كانت ابنية القوة السياسية فى غالب العالم العربى كاشفة عن انحيازاتها الاجتماعية لبعض مكوناتها الانقسامية أيا كانت اللغة السياسية التي تشكل بنيات الخطابات السياسية ، ومن ثم كان السمت البارز يتمثل في  سطوة مفهوم الغلبة السلطوية، والسلطان المتغلب فى فقه الجمهور السنى! الغلبة السلطانية آيا كانت مسمياتها الجمهورية، أو الملكية أو المشيخية أو الأميرية . الوعى الجمعى السلئد في غالبه من الجماعات المختلفة التي تشكل مكونات شعب الدولة ، يدرك  أن الدولة هى من يسيطر على بناء القوة، بكافة مصادرها العسكرية والأمنية، والدينية والبيروقراطية والإعلامية . من ثم حدث انفصال فى غالبُ الوعى الجمعى بين معنى الدولة الرمزى المتعالى فوق مكوناتها، وسلطاتها الثلاث، والجغرافيا السياسية، وبين بناء القوة  والسلطة المهيمنة خاصة فى ظل هشاشة مفهوم الهوية الجامع، والموحد لجماعتها الانقسامية، ومن ثم تنامت وتشكلت هوياتها المتعددة ، وثقافاتها الخاصة ، بل وبناء تاريخها الشفاهى فى ضوء الاقصاءات السياسية لها ، وتهميش بعضها او غالبها في بعض الحالات فى بناء القوة، أو فى الوظائف العامة، أو فى سياسات التنمية –آيا كانت طبيعتها وتوجهاتها- وذلك  فى ظل نظم استبدادية، أو تسلطية لا تعتمد فى بناء نظام شرعيتها السياسية على السند الديموقراطى التمثيلى، وإنما على عديد المصادر الدينية والمذهبية، وخطاب الاستقلال ، والسيادة، والتنمية، والتحرر الوطنى، ومحاربة الاستعمار، ومواجهة إسرائيل لاسيما من دول الدائرة البؤرية، والطوق  فى المشرق العربى آيا كانت مصداقية هذه المجازات السياسية الشعاراتية. من هنا كانت مفاهيم الأمة وإرادتها العامة، والشعب الواحد ، والشعب هو المعلم، محضُ مجازات سياسية فارغة من مضامينها، ودلالاتها فى المعجم السياسى الغربى –الأوروبي اساسا- والدولة/ الأمة، والنظم الليبرالية ونماذجها المتعددة. لا يختلف الأمر كثيرًا فى ظل استعارات بعض القادة لبعض من الإصطلاحات والمفاهيم من دول وإيديولوجيات وخطابات الأمبراطورية الماركسية، وتناصات بعضها فى الخطابات السياسية العربية آنذاك، مجتزأه، وخارج سياقاتها الفلسفية، والإيديولوجية، والسياسية. كان الخطاب السياسى العربي – الشفاهى والمكتوب- ينطوي على استعارات من المتون الغربية، والماركسية، والقومية العربية، كجزء من انساق لغوية سياسية معبرة عن الفراغ ، وموت السياسية، وكأقنعة للتعبئة والحشد الجماهيرى، من بعض الدول ضد بعضها بعضا، أو ضد الكولونيالية الغربية، ثم الأمبريالية الأمريكية لدى بعض قادة ما بعد الاستقلال.

كان الخطاب الساسى الموجه إلى الشعب ، أو الأمة كأصطلاحية مجازيين-، أو للغالبية الشعبية ، وتمييزها خطابيا عن الطبقات المستغلة  – تركز على المساواة، والكفاءة، والعمل، وتوفير الاحتياجات الاساسية للجماهير العاملة ، وهو شكل مركز الخطاب السياسى التعبوى، مع الاشارة إلى الصعوبات الخارجية التى تواجه التنمية، ونقص الموارد الطبيعية والبشرية!

كان هذا الخطاب السياسى، وفي غالبه بنية من التمجيد للأمة/ الشعب/ القوى الشعبية العاملة فى نزعة شعبوية غلابة، وجد بعضا من القبول والتعبئة والتأثير، فى مواجهة الاستعمار ، والأمبريالية ، وإزاء النزاعات البينية مع دول مجاورة، أو بعض  دول الجوار الجغرافى العربى.

كان التركيز اساسا على بناء القوة العصبوى المرتكز على بعض المكون الأغلبي في التركيب الاجتماعي لمكونات كل دولة وجماعاتها العرقية ، والقبلية، والعشائرية، والعائلية، والدينية والمذهبية ومع بعض التحالفات مع بعض رموز جماعات اخري ،  وماترتب علي ذلك من هيمنة وإقصاءات ، وسياسة الانحيازات لإصول، وإنتماءات قادة السلطة الحاكمة، ومراكز القوة داخلها الذين حملوا فى أعطافهم ، وإنحيازاتهم بعض من هذه الانتماءات إلى جماعاتهم الأم، وهو ما كرس بعض الانقسامات الاساسية، وعمق الفجوات فيما بين بعضها بعضا، لدى غالبهم.

لا شك أن إعادة إنتاج الولاءات والانتماءات العرقية والقبلية والعائلية والعرقية والدينية والمذهبية فى بناء القوة السياسية، وسلطات وأجهزة الدولة البيروقراطية رمى إلى بناء قواعد دعم ومساندة وتأييد من هذه الجماعات –آيا كانت جذورها وتاريخخها وهوياتها- فى ظل هيمنة الحزب القائد -،علي نحو ما ساد في ظل حزب البعث في سوريا، العراق- أو التنظيم الساسى الواحد، آيا كانت  تركيبته الاجتماعية، وشكله السياسى، وتفاقم أزمة الشرعية السياسية للنظام، واعتماده على عنف النظام –البوليسى والاستخباراتى والعسكري، وجهاز الدولة الإيديولوجى- لتحقيق الهيمنة على مكونات المجتمع الانقسامى بالقوتين المادية، والرمزية من خلال إيديولوجيا النظام –فى ظل حكم البعث السورى والعراقى- من خلال مفاهم القومية والوحدة العربية، وذلك كغطاءات إيديولوجية تخفي انحيازات زعماء كلا البلدين إلي بعض من انتماءاتهم لبعض المكونات الدينية والمذهبية والمناطقية، وايضا لحشد بعض الأقليات الدينية والقومية في مواجهة بعض الجماعات المذهبية الأخرى –الشيعة والأكراد فى العراق، والسنة فى سوريا والقبائل الأفريقية في شمال دارفور وجنوب السودان -، مع تجنيد بعض الشخصيات التى تنتمى إلى بعض هذه الجماعات داخل البناء القيادى للحزب الحاكم، أو بناء القوة السياسى حول القيادة المتغلبة والمسيطرة. فى بعض البلدان الأخرى، كان الاعتماد على تنمية بعض المناطق على حساب أخرى، ومثالها الساحل ، والعاصمة فى تونس، وأهمال الوسط والجنوب التونسي فى ظل هيمنة الحزب الدستورى، والتمركز حول القيادة التاريخية للحبيب بورقيبة، وإيديولوجيته الوطنية العلمانية، واصلاحاته لمدونه الاحوال الشخصية، ودعم حقوق المرأة، ونظام الزواج والأسرة، وتطوير التعليم، ونزعة تسلطية سياسية مهيمنة على النظام والمجتمع التونسى ، وهي سياسة استمرّت نسبيا مع تسلطية  زين العابدين بن علي .

في السودان ما بعد الاستقلال ظل النظام اسيرًا لمؤسسة السيدين – الميرغنية  والمهدية-، وقبائل الوسط النيلي العربية الكبرى والصغري وفروعها المتعددة ، مع بعض العناصر الأخري من الجغرافيا القبلية المتعددة فى السودان، وتهميش المكونات القبلية والعرقية الأفريقية فى جنوب السودان ودارفور . كانت تركيبة القوة تعتمد على المصدر القبلى والعربى، فى مواجهة مع الاعراق الأفريقية، والنزاعات المسلحة معها، فى ظل ثنائية الحكم المدنى/ العسكرى المستمرة منذ الاستقلال حتى انفصال جنوب السودان، والانتفاضة الشعبية ضد حكم الإسلامى لحزب المؤتمر الوطنى، ثم نشوب الحرب الأهلية بين القوات المسلحة، وقوات الدعم السريع بقيادة حمديتى. تفاوتت الأقنعة الإيديولوجية المتصارعة منذ الاستقلال ودارت حول مفاهيم السيادة ، والاستقلال الوطنى، والأمة السودانية، والعروبة والإسلام، وكانت تعكس أوضاع الإقليم السياسية والأيديولوجية من التعددية الحزبية –أحزاب ليبرالية/ عرقية، وقومية عربية ناصرية وبعثية وشيوعية… إلخ-، ومن نظام عسكرى انقلابى إلى حكم مدنى ديمقراطى نسبيا، ومن جعفر نميري، وتحوله إلى حكم اسلامى، ثم انقلاب عسكرى بالشراكة مع حسن الترابى، ثم انقلاب عمر أحمد البشير وبعض عناصر قيادية من حزب الترابى، إلى انتفاضة شعبة، ثم الحرب الأهلية المستمرة إلى هذه اللحظة.

كانت الصراعات الإيديولوجية، وخطاباتها السياسية فى الحكم والمعارضة السودانية، ومعها مجازاتها السياسية مفارقة للواقع الموضوعى المتعدد والمتصارع فى السودان، والمنافي للغة السياسية المستخدمة ومجازاتها المفرطة .

من هنا لم تتشكل مفاهيم الأمة/ الوطنية، والهويات القومية ، والمواطنة، والمساواة، ودولة القانون فى اطار التكوينات الاجتماعية الانقسامية، وسياسات التهميش، والاقصاء فى غالب البلدان العربية –باستثناء مصر والمغرب، وتونس نسبيًا-، وذلك لفشل سياسات الاندماج الوطنى، وهشاشة الموحدات الوطنية الجامعة بين المجموعات الاساسية لغالب هذه المجتمعات الانقسامية. من ثم كانت الغلبة لسياسة القوة فى فرض سلطة الحكم الفردى، فى كل بلد، وتفاقمت أزمات الشرعية السياسية، والاضطرابات ، والنزاعات المسلحة، حتى الوصول إلى الانتفاضات الشعبية الواسعة وما أطلق عليه مجازيا ثورات الربيع العربي وفشل مراحل الانتقال السياسي في هذه البلدان ، ثم نشوب الحروب الأهلية فى العراق وسوريا، ولبنان، والسودان، واليمن، وليبيا.

لم تقتصر اللغة السياسية ومجازاتها علي المفاهيم الدولتية والقومية ، وانما علي المفاهيم الدستورية والقانونية والسياسية من مثيل سيادة القانون ، الذي كان يمثل مصالح السلطة المتغلبة أساسا ، السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية ، وهيمنة الأداتية القانونية في السيطرة ، وتزايدت وتفاقمت النزعة الجنائية والعقابية في محاولة للردع العام والخاص ، في مساحات وتفاصيل واسعة ، مع إغفال الضمانات الموضوعية والإجرائية للمتهمين ، وخاصة في ظل القيود علي السلطات القضائية وعدم استقلالها ، ومن ثم بات القانون في الوعي الجمعي تعبيرا عن السلطة الحاكمة لا عن مصالح الدولة والمواطنين وغالبيتهم الشعبية .

ثمة تكرارات في الخطابات السياسية الاستبدادية والتسلطية عن مبدأ فصل السلطات بينما الواقع الموضوعي يكشف عن عدم استقلال السلطة التشريعية الموالية للسلطة التنفيذية والحاكم الفرد وأعوانه ، وعدم استقلال القضائية .

الحديث عن حريات التعبير والتدين والاعتقاد بينما الواقع القانوني يناهض ذلك من خلال تنظيم الحريات وتقييدها وتصفيتها ، في الممارسة ..الخ . من ثم كانت الخطابات واللغة التي تشكلها ومجازاتها تدور في الفراغ وتعبر عن موت السياسة ، وفقدت قوتها وتأثيرها علي الوعي الاجتماعي الجمعي .

فشلت اللغة والمجازات السياسية على تعدد مصادرها الإيديولوجية والفلسفية فى ظل غياب مؤسسات تمثيلية ديمقراطية وتعددية، تؤسس للتكامل الداخلى بين المكونات الانقسامية، وبناء هويات وطنية جامعة للتقصي مكوناتها وجماعاتها، وهوياتها الخاصة، ومع سلطات الغلبة غابت دولة القانون والحق والعدالة، وماتت السياسة، فى ظل صحوة مستمرة للقوة الرعناء للسلطة الحاكمة المتغلبة ، وسادت معها لغة ومجازات سياسية شعبوية متغيرة ، وفارغة تحملها خطابات سياسية منفصلة عن واقع موضوعى متغير.

 

المصدر: الأهرام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى