
تتوالى التعيينات في سوريا على مختلف المستويات الحكومية والإدارية، وصارت معتادةً رؤية المباركات للمسؤولين الجدد على وسائل التواصل الاجتماعي، من قبَل أصدقاء لهم، أو من قبَل محتفلين بالتغيير عموماً. يلفت الاهتمام في هذه الظاهرة أن هناك اتفاقاً عاماً على فكرة المباركة للشخص المعني، وعلى نحو يجدد النظرة المعتادة إلى المنصب بوصفه امتيازاً أو مغنماً، لا بوصفه مسؤولية يتحمّلها شاغله. بالطبع ثمة فرق بين التهنئة لمسؤول بالتعيين والتهنئة لفائز بالانتخابات، فالمباركة للثاني هي تهنئة له على نيله الثقة، سواءً نالها شخصياً أو بفوز حزبه في الانتخابات.
في وضع سوريا ، قد يكون الأنسب أن يتمنى السوري لصديقه التوفيق والنجاح في تحمّل مسؤولية منصبه، وهو ما ينسجم أيضاً مع صدور الحفاوة من الذين ينسبون أنفسهم إلى الثورة على العهد البائد. على هذا الصعيد، لا يخفى أن جزءاً من الحفاوة مصدره التشفّي بمسؤولي ذلك العهد وهم يُبعدون عن مناصبهم في الحقبة الجديدة، لكن المؤسف ألا ينتبه المحتفلون بالتغيير إلى ضرورة تغيير ما في نفوسهم أيضاً وطريقة تعاطيهم مع السلطة.
لا شك في وجود ميل سائد إلى إقصاء المسؤولين المعيّنين في مختلف الإدارات، المتوسطة وحتى الدنيا، وهو ما يحدث حقاً من دون توقف عند أهمية المنصب وشاغله في العهد البائد، ومن المتوقع أن تمضي قدُماً عملية الإحلال خلال السنوات الخمس الانتقالية المنصوص عليها في الإعلان الدستوري. وقد صار واضحاً أن ذلك ينطبق على النقابات، إذ تصدر على التوالي قرارات بحل مجالسها أو مكاتبها التنفيذية، وتعيين قيادات بديلة، ويُنظر إلى التعيينات كأنها من طبائع الأمور.
يهمنا في هذا السياق التوقّف تحديداً عند الاستحواذ على مجالس النقابات، وآخرها تعيين مجلس لتسيير أعمال “اتحاد الكتّاب العرب”، بقرار صادر عن “الأمانة العامة للشؤون السياسية” أُعلن عنه قبل أسبوع. القرار صدر عن هيئة تمّ تشكيلها بعد الإعلان الدستوري، وغير منصوص عليها فيه، ويُنظر إليها كبديل للدور الذي كان يقوم به حزب البعث عندما كان بموجب الدستور “قائد الدولة والمجتمع”. الهيئة تتبع وزارة الخارجية، بينما تنشط في الداخل السوري، ويبدو أن صلاحياتها تعلو على صلاحيات الوزارات الأخرى، فالقرار الخاص بتعيين مجلس لاتحاد الكتاب كان يُفترض صدوره عن وزارة الثقافة.
يعلم السوريون أن المكاتب والمجالس التنفيذية لكافة النقابات كانت معيَّنة بقرار من السلطة السابقة، وتغييرها (بتعيين مجالس ومكاتب مؤقتة) ليس موضع خلاف من حيث المبدأ. لكن ما ينتقص من إزاحة مجالس سابقة (غير منتخبة باقتراع حقيقي) هو عدم وجود ما ينبئ باتخاذ مسار ديموقراطي يطوي تلك الصفحة، ففي قرار تشكيل مجلس تسيير أعمال اتحاد الكتاب هناك أربع فقرات لا تنص ولا واحدة منها على أن مهمة هذا المجلس هي التحضير لانتخابات ضمن مهلة محددة ومنطقية لا أكثر. بل إن القرار يخلو تماماً من الإشارة إلى انتهاء مهمة المجلس الجديد بانتخاب مجلس جديد، وهي المهمة التي يُفترض أن تكون أساس عمله.
واقعياً، لا يستلزم إجراء انتخابات لاتحاد الكتاب وقتاً طويلاً، فخلال ستة شهور مثلاً يمكن النظر في وجود منتسبين لا يحققون شروط العضوية، ودعوة الكتّاب المقاطعين لأسباب سياسية كي ينتسب منهم مَن يشاء، ثم تُجرى الانتخابات في المحافظات وصولاً إلى انتخاب المكتب المركزي. ما يصحّ على اتحاد الكتاب ينطبق بسهولة أكبر على معظم النقابات المهنية الأخرى، إذ يندر أن يكون هناك أعضاء مشكوك في صحة عضويتهم في نقابات مثل المحامين والصيادلة والأطباء والمهندسين والمعلمين… إلخ. وإجراء انتخابات في هذه النقابات جميعاً لا يتطلب وقتاً طويلاً، أو إجراءات لوجستية غير متاحة.
نجزم إلى حد كبير بأن إجراء انتخابات نقابية ممكن بحلول نهاية هذا العام، إذا وُجِدت الرغبة في إجرائها، ومن المستحسن بالتأكيد عدم الوصول إلى قناعة بانتفاء وجود نية لدى الحكم لإجرائها بموجب القواعد الديموقراطية المعروفة. أما إذا لم تكن النية متوفّرة فالأولى بأعضاء النقابات السعي إلى امتلاك زمام نقاباتها بأنفسهم، فلا يعوّلوا بالمطلق على حسن نوايا السلطة. ما نعنيه بهذا هي السلطة الحالية، وأية سلطة أخرى في مكانها أو حتى بالمعنى المطلق للسلطة، إذ من طبع السلطات جميعاً أن تحاول الهيمنة إذا لم تجد ممانعة من المجتمع، وهو ما يحدث أحياناً حتى في بلدان ذات تجربة ديموقراطية.
كان الأولى أصلاً بكل الذين قبِلوا استلام مهمات نقابية أن يشترطوا كونها مؤقتة بمهلة محدودة، وبمهمة واضحة هي إجراء انتخابات ديموقراطية، وأن يتعهّدوا على نحو لا لبس فيه بالتنحّي في حال لم يلتزموا بوعودهم؛ متضمنةً الالتزام بالمهل كي لا يصبح التنصّل منها سبيلاً للتنصّل من الاستحقاق الديموقراطي. والتشديد على واجب الالتزام بالذهاب إلى صناديق الاقتراع يكتسب أهمية استثنائية في سوريا؛ أولاً لأنه يأتي بعد ثورة طالبت عندما انطلقت بالحريات الديموقراطية، وثانياً لأن الإعلان الدستوري نصّ على مرحلة انتقالية من خمس سنوات، لن تكون هناك فيها أدوات رقابة سياسية منفصلة عن الحكم نفسه. إن تفعيل حيوية نقابية حقيقية سيكون بمثابة رقابة مجتمعية تسدّ النقص الذي أشار إليه كثر في الإعلان الدستوري، على صعيد فصل السلطات وخضوعها لمبدأ الرقابة.
استعادة النقابات مطلوبة لذاتها أولاً، وجدير بالذكر أن حافظ الأسد استكمل الإجهاز على استقلالية النقابات السورية في نهاية سبعينات القرن الماضي، فلم تكن التجربة النقابية السورية ممتثلة دائماً للسلطة على النحو الذي حدث منذ الثمانينات، بل إن مؤتمرات الطلبة في الجامعات السورية شهدت حتى بدايات الثمانينات أصوات معارضة انتقدت الأسد بشراسة. واليوم، مع تراجع التجارب الحزبية التقليدية، تبدو النقابات هي المدخل المتاح للانتظام حسب الاهتمامات والمصالح، والمدخل الأنسب أيضاً لاختراق الانقسامات الأهلية (الطائفية وغيرها) بتنظيمات مجتمع مدني تمهّد أمام تكتلات سياسية عابرة للمجتمعات الأهلية.
على العموم، يُؤخذ الحق انتزاعاً في السياسة، فلا يُنتظر الحفاظ عليه أو تعزيزه إلا من سلطة منتخبة تخضع للرقابة. وتغييب السياسة طوال عقود أدى إلى قمع ومن ثم فقدان المبادرة لدى السوريين، ليستردها البعض بعد سقوط الأسد، ثم يحدث انكفاء عن الحماسة الأولى بسبب الخيبة من المؤتمر الوطني والإعلان الدستوري اللذين لم يكونا على قدر التطلعات. قد تبدو المهمة شاقّة، لكن للتدليل على أنها غير مستحيلة يمكن الاستشهاد بالتجربة النقابية التونسية التي فرضت نفسها شريكاً أو خصماً يصعب تجاوزه في الحسابات السياسية. والشائع أن تونس هي أقرب بلدان المغرب العربي إلى سوريا، وربما هناك في التجربة التونسية العديد من الدروس الجديرة بالانتباه.
المصدر: المدن