بعد أيام سيحتفل السوريون بذكرى انطلاق ثورتهم المجيدة، التي جسدت حلم وطموح الملايين منهم، للانعتاق والخلاص من نظام تعددت توصيفاته وسماته وطبائعه، إلى الدرجة التي يصح معها القول إنه تجاوز كل ما توصل إليه علم الاجتماع السياسي من نعوت وصفات لنظم من طبيعته وتشبهه في البنية والسلوك. ذكرى الثورة هذا العام لها طابع مختلف، تمامًا، فهي تأتي وسط تبدلات سياسية كبيرة، وانهيار بعض التحالفات والمسارات، التي رسمت خلال الأعوام الماضية. ضحيتها ملايين من السوريين في محافظة إدلب، وريفها، وحتى ريف محافظة حلب، كما عموم سورية، إضافة طبعًا، لهامشية التعاطي الدولي مع القضية السورية وعذابات السوريين المستمرة. ما يسترعي الانتباه، ويجب التوقف عنده، في هذه الذكرى المجيدة، هو إصرار ملايين من السوريين على الموت جوعًا، وبردًا، وتحت حمم نيران القصف المجنون دون حتى التفكير بالعودة إلى مناطق النظام، أو التي هي تحت سلطاته الغاشمة، ما يؤكد أن كل التبدلات والتغييرات الميدانية لم تمس إرادة السوريين وإصرارهم على الخلاص من نظام القتل والإجرام، والطغيان الكوني، بل هي تدفعهم للتمسك، أكثر، بأسباب ثورتهم، وعدم التراجع أو التنازل عنها. تبدلت المعطيات التي كانت سائدة في آذار/ مارس 2011، كثيرًا، عما هي عليه الآن، وروح التفاؤل لم تعد كما كانت قبل اليوم بتسعة أعوام كاملة، لكن ذلك لا يعني أبدًا الهزيمة والاستكانة لإرادات الأطراف الإقليمية، والدولية، الفاعلة على الأرض، وها هي المعارك الدائرة في ريف محافظة إدلب تؤكد على قدرة السوريين على تحقيق انتصار حاسم فيما لو سمح لهم بذلك، ما يعيدنا إلى القول أن كل الأسباب المتداولة عن مأزقنا الحالي هامشية أمام قرار شركاء النظام وحماته الظاهرين، وغير المعلنين على حمايته ومنع سقوطه. في هذا الصدد يمكن قول الكثير عن (عطب الذات)، وعن مسؤوليات أطراف وجهات عديدة، عن “وقائع ثورة لم تكتمل” ولكنها لم تنته ولم يسدل الستار عليها، وبعيدًا عن أي فلسفة سياسية لمعاني الثورات ومضامينها فليس هناك من سبب واحد وجيه، وذو قيمة، سياسية أو تاريخية، لاعتبار أن الثورة السورية لم يعد لها ما يبررها في الواقع والوجدان، وضرورة التفكير في اللحظة التالية بناء على ذلك. صحيح أن المهمة تعقدت والتحديات زادت، بحكم واقع الاحتلالات، والتدخلات، وسفور المشاريع المتصارعة، ولكن هو في الوقت ذاته قدر الثورات العظيمة بأن تخوض معاركها على جبهات وصعد مختلفة، وعلى مراحل زمنية طويلة، وحتى حقب متعاقبة، حتى تحقق انتصاراتها وتحدث تحولاتها التاريخية الكبرى. أهمية الثورة السورية كفعل تاريخي عظيم بهزاتها الارتدادية التي أحدثتها في المنطقة وما فجرته من تناقضات في محيطها وجوارها، أقربها في العراق ولبنان. من نافل القول إن الثورة السورية أتت في سياق ربيع عربي عبر موجته الأولى والثانية ولكن لا يجب إغفال تأثير الثورة السورية وإلهامها لشعوب أخرى في المنطقة للانتفاض على واقع الاستبداد والهيمنة والمشاريع المتصارعة وارتباط مآلات كل منهما بالأخرى، في انتصاراتها وانكساراتها.
تجدد الثورة السورية اليوم نفسها، بأشكال مختلفة، وربما لم تكن قواعد الفرز في داخلها، يومًا، كما هي عليه اليوم، لجهة من حمل اسمها وراياتها، أو من وقف ضدها، أو ظل متحفظًا عليها، تحت حجج وذرائع واهية، وهي بذلك تعود إلى جذرها وأصلها “ثلة من الأولين وقليل من الآخرين” ولكنها مستمرة بما يملك أهلها من إيمان وقناعة راسخة بحتمية الانتصار، أقله كفعل تاريخي وفي سياق حركة عجلة التاريخ التي لا تتوقف ولا تهدأ، ما يفرض علينا إعادة التفكير في تحالفاتنا وخطابنا وأخطائنا، والبحث في خارطة طريق متجددة لمستقبل الثورة السورية ، ثورة الحرية والكرامة، بعد جملة المفاعيل الدراماتيكية التي وقعت مؤخرًا.
المصدر: صحيفة اشراق