
سرعان ما يتكشّف بعد كلّ جريمة، أن الحاجة إلى العدالة والمحاسبة في سورية لا يمكن حصر مفاعيلها في الداخل السوري فقط. وتزامناً مع الذكرى الرابعة عشرة لاندلاع الثورة السورية ورحيل الطاغية (قبل أيّام قليلة)، ينبغي التذكير بأن دولة سورية ديمقراطية، تساوي بين جميع السوريين أمام القانون، وتحمي التنوع والتعدّد السوري جزءاً من التنوع والتعدّد في المنطقة بمجملها، وتعترف بالجماعات، وتعكس ذلك الاعتراف في الدستور وبمصادره التشريعية، وفي الممارسة السياسية الديمقراطية وحرّية التعبير عن الرأي… هذه الدولة السورية هي ما انتفض من أجله الشعب السوري، ولطالما كانت الحاجة إلى المحاسبة حاجةً من أجل مستقبل الشعبين السوري واللبناني، ولاستقرارهما.
لطالما ردّد النظام السوري السابق، وحلفاؤه في لبنان، أن اللبنانيين والسوريين “شعب واحد في بلدَين”. أو بالأحرى، كان هذا الشعار بمثابة ردّ تلقائي على أيّ إمكانية للتمييز بينهما شعبَين مستقلَّين ولهما خصوصيتيهما، ويعيشان في دولتَين مختلفتَين، إلا أن الأيديولوجيّة الاستبدادية العائلية التي مارستها الأنظمة البعثية، خصوصاً في سورية، كانت تستخدم الشعار لإسكات كلّ معارض وللإطاحة بأيّ محاسبة، من دون أن تكون لها أيّ مفاعيل تكاملية على الشعبين امتداداً طبيعياً وجيوسياسياً ومصلحياً، امتداد وتكامل يقومان على الاحترام المتبادل، وليس على مصادرة الحرّيات والانتظام السياسي ونهب خيرات الشعبين معاً. على الرغم من أن معظم المفكّرين السوريين واللبنانيين لم يتردّدوا في التذكير بهذا التكامل، خصوصاً أولئك الذين نُكّل بهم وصولاً إلى اغتيالهم. على سبيل المثال لا الحصر، ألم يقل سمير قصير (تشير أصابع الاتهام إلى كلّ من نظام آل الأسد وحلفائه في لبنان بالضلوع باغتياله، كما في كم الاغتيالات التي شهدها لبنان خصوصاً في عام 2005 وما تلاه): “حين يزهر ربيع العرب في بيروت، فإنه يُعلِن أوان الورد في دمشق”؟
لنظام آل الأسد مسيرةٌ حافلةٌ بشعارات الحقّ التي يراد بها باطل، والتي لم تنتج إلا القمع والترهيب والإقصاء
لكن، لنظام آل الأسد مسيرةٌ حافلةٌ بشعارات الحقّ التي يراد بها باطل، والتي لم تنتج إلا القمع والترهيب والإقصاء والاغتيال والنهب المنظّم، كما لم تنتج سوى صراعات أهلية وحقد متبادل، تُصرَف نتائجهما في مصلحة النظامين والقوى التي تهيمن عليهما فقط. أمّا اليوم، ومع صعود القراءات اليمينية في العالم بمجمله، يتكرّس عند بعضهم أن ميل الموازين في هذا الاتجاه أو ذاك، في سورية أو في لبنان، يمكن عزله عن الدولة الأخرى، خصوصاً الصراعات المسلّحة والأهلية والمجازر الطائفية. لكنّه ليس إلا أضغاث أحلام لطالما تعلّق في حبائلها هواة السلطة والتسلّط من الطرفَين، تماماً كما حوّل نظام آل الأسد سورية ولبنان مرتعاً لمفاوضاته وعملياته وتصفية حساباته، ومزيداً من سلطانه. والعكس بالعكس أيضاً، حين تدخّل حزب الله لقتال الشعب السوري، واستخدم مستقبله وتطلّعاته كما استخدم مستقبل الشعب اللبناني وتطلّعاته وسيلةً لمصلحته ومصلحة إيران من خلفه. لكن حقيقة الواقع الجيوسياسي، والتموضع والتعدّد الطائفي والمذهبي والديني والإثني، الممتد في المنطقة، يشي بعكس ذلك تماماً. فأيّ شرارة في سورية لن يطول الوقت لتجد هشيماً قابلاً للاشتعال في لبنان، في هذه اللحظات المتأجّجة على وجه التحديد.
قد يظن بعضهم أن إمكانية الالتفاف على المحاسبة عن الجرائم التي طاولت العلويين في مناطقهم (وهنا نتكلّم عن المدنيين الذين غصّت الوكالات والأنباء بصورهم وأخبارهم وفيديوهاتهم، وليس عن بقايا مليشيات الأسد والنظام الإيراني، التي ما زالت تصرّ على استخدام السوريين واللبنانيين، وغيرهما من شعوب، وقوداً لمصالحها) لن يكون له ذلك الأثر الكبير في لبنان وفي المنطقة، كما سبق واعتقد بعض آخر أن الجريمة المباشرة التي ارتكبها نظام الأسد بحقّ السوريين، وشارك فيها حلفاؤه من اللبنانيين وبقية المليشيات، واستمرّت ما يقارب عقداً ونصف العقد، وطاولت (خصوصاً) السوريين السنّة، لن تنعكس في لبنان، سواء في الصراعات أو في الحلول.. ذلك كلّه محض أوهام، والدليل أن التأجّج الطائفي في لبنان بلغ مداه في غير منطقة.
الإصلاح التعدّدي والديمقراطي حاجة لاستقرار سورية، يطاولان مباشرة السلم الأهلي في لبنان
من هذا المنطلق، هناك حاجة ضرورية في البلدين للمحاسبة الجدّية، مع مرور ذكرى اندلاع الثورة ورحيل الطاغية، للمحافظة على سورية وعلى لبنان، وعلى البلدان المحيطة، وليس لبناء طغيان معاكس. إذ يكفي هذان البلدان، وهذه المنطقة، الخطر الداهم الذي يتربّص بها نتيجة الأطماع والصراعات المحتدمة في المنطقة (وعليها)، ولا سيّما من إسرائيل، التي لن تتلكأ عن تغذية واستخدام أيّ تأجّج طائفي لتجيّره في صالحها، الذي قد تصل مفاعيله إلى تقسيم الدول المحيطة، أو إلى حروب وصراعات أهلية ومواجهات دامية، على حساب وحدة ومستقبل واستقلال البلاد، وعلى حساب دماء المدنيين فيها.
والكلام أعلاه لا يعني (ولا يبرّر) تدخّل أيّ دولة في دولة أخرى، كما أنه لا يعني أن غاية السلام الداخلي لشعب ما ليست إلا وسيلةً لغاية سلام شعب آخر. بل على العكس، هي حاجة ملحّة للدولة وللشعب ذاته. فالإصلاح الجدّي والجذري والتعدّدي والديمقراطي حاجة لاستقرار سورية، وتطلّع إلى مستقبل الشعب السوري، وغاية ومطلب قائمان في ذاتهما ولذاتهما. لكنّ هذا المطلب وهذه الغاية، يتخطّيان غائيتهما المباشرة المحصورة في الداخل السوري ليطاولا السلم الأهلي في لبنان بشكل مباشر، والسلم الأهلي في المنطقة بشكل غير مباشر، خصوصاً أن المنطقة في خضم عملية إعادة رسم الخريطة.
المصدر: العربي الجديد