
طيّبٌ من الصحافية الأميركية، ميغان كي ستاك، أن تنعت التجويع الذي يقترفه نتنياهو في غزّة بالجنون، عندما يعتمده “تكتيكاً تفاوضياً” مع “حماس”. ولا يصيبُنا، نحن في “العربي الجديد”، أي زهوٍ بأن الزميلة تكتُب في صحيفتها الشهيرة ما نكتُبه، ولا نملّ من تكراره، عن التجويع والقتل والعدوان في القطاع المنكوب عناوينَ ظاهرةً في أداء حكومة الاحتلال التفاوضي. ويحسُن تقدير ما تُخبِر عنه الصحافية التي تختصّ بتغطياتٍ في الشرق الأوسط، وهي تكتبُ أنها لا تستطيع التخلّص من الشعور المخيف بأن غزّة تختفي بالفعل. وقد سمّته تكتيكاً مُشيناً تهديد وزير الحرب الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، بإغلاقٍ كاملٍ لأبواب غزّة، وفتح أبواب جهنّم، إذا لم تُفرج “حماس” عن مزيدٍ من المحتجزين الإسرائيليين لديها. أما ترجيح الكاتبة أن رئيس الولايات المتحدة، ترامب، موافقٌ على هذا، ففي محلّه ربما، فلم تبدُر من الرجل إشارةٌ تُنبئ عن اعتراضه على “جريمة الحرب” هذه، كما وصفتها الصحافية محقّة. وهنا ينفتح قوسٌ لا حاجة إلى غلقه، بشأن ما ينتهجه ترامب في ملفّ المفاوضات مع “حماس”، فقد أنذر، بشخصه، الحركة بجهنّم إذا لم يعُد أولئك إلى منازلهم. غير أنه، في الوقت نفسه، يفوّض موظّفاً تنفيذياً في البيت الأبيض، عمل تحت جناح صهره كوشنير بعض الوقت، اسمُه آدم بولر، بمجالسة مفاوضين من “حماس” في الدوحة، لاستكشاف إفراجٍ عن محتجزٍ أميركي إسرائيلي، فتستنفر إسرائيل مستهجنةً هذا السلوك الأميركي غير المسبوق، وها أخبار تتردّد عن سحب بولر ترشيح نفسِه لوظيفة ذات مسمّىً على بعض الطرافة والغرابة، “المبعوث الرئاسي الخاص لشؤون الرهائن”. وقد لا يُحتاج إلى حصافةٍ عاليةٍ ليرى من يرى إزاحة هذا الرجل عن وظيفةٍ عارضةٍ مثل هذه تعودُ إلى قوله عن رجال “حماس” ناساً لطفاء، وعاديين “مثلنا، لا تنبت قرونٌ من رؤوسهم”.
يتبيّن من معاينة سياسة ترامب في قضية غزّة وناسها المحاصرين أن شعوراً كالذي غشي الزميلة في “نيويورك تايمز” بشأنهم لا يجد مسرَباً إلى حشايا هذا الرجل وجوانحه، غير أنه، في الوقت نفسه، لا يُريد عودة إسرائيل إلى الحرب، أو أقلّه لا يتحمّس لاستئنافها، فهو، بمزاجه الخاص، لا ينزِع إلى تحبيذ الحروب حلولاً لأيّ مشكلات، وإن تلزم في الغضون بعضُ عنترياتٍ عالية الصوت. وها نحن نرى حماسَه لأن تنتهي الحرب الروسية الأوكرانية. ورجلٌ يطمح إلى تحويل غزّة إلى “ريفيرا” لا نظنّه يُؤثِر مزيداً في قتل ناسِها. على أن هذا القول لا يحسِم شيئاً، فمن العويص بمكانٍ أن “يضبط” قارئٌ في السياسة، ومتابع وقائعها، مساراً غير متعرّجٍ لسياسة إدارة ترامب في غير موضوع، ففيما يقاطع ضيفَه في البيت الأبيض رئيس وزراء أيرلندا بالقول إن لا أحدَ يريد أن يُهجّر الغزّيين، يحاور موظفون في إدارته سلطةً غير شرعية في إقليم صوماليلاند من أجل استقبالهم.
أخذاً بهذا، ليس ميسوراً أن يفلح الناظر في أجواء مفاوضات الدوحة، شديدة الكتمان، بشأن مرحلةٍ ثانية (أو أخيرةٍ؟) لإفراجٍ عن أسرى إسرائيليين وفلسطينيين، ووقفٍ نهائيٍّ لحرب الإبادة، في الوقوع على مجراها العام. ولئن يمكن التسليم بأن علوم التفاوض تُخبرنا بأن حالاً كهذا بديهيٌّ في أيّ مفاوضات، يحترسُ طرفاها ووسطاؤها من تسريباتٍ قد تؤثّر على إيقاعها، فإنك سترى ما قد يعدّ مُلغِزاً في أداء الوسيط الأميركي، وهو هنا يمثّل دونالد ترامب وليس جو بايدن، أي يمثل رئيساً قادراً على أن يسمع منه نتنياهو أن لا شيء لديه اسمُه “وجبات بالمجان”، بتعبير كاتبٍ في “معاريف” الإسرائيلية، لم يستبعد أن يجد رئيس وزراء الاحتلال نفسَه في مطرح زيلينسكي يتلقى التقريع إيّاه في البيت الأبيض، إذا واصل المجيء إلى مفاوضات الدوحة والقاهرة وكأنه في منزلة ترامب. وتلك بادرة بولر مجتمعاً مع “حماس” توضح أن لا محرّمات لدى المقيم الراهن في المكتب البيضاوي، وأنه صاحب قرار، وأنه غير ضعيفٍ أمام صلافة نتنياهو، كما حال بايدن. وهذه الصحافة العبرية تُسرف ليس فقط في الكتابة عن الفروق بين الرئيسيْن الأميركييْن، بل أيضاً في تعريف نتنياهو بأن على إسرائيل، في زمن ترامب، أن تدفع مبادراتٍ أو تنازلاتٍ أو ما يشبههما إذا أرادت شيئاً متعيّناً، كما في مفاوضاتٍ غير مباشرة مع “حماس”.
إذن، لنقل إن مفاوضات غزّة والأسرى والمحتجزين ستنتهي كما يريد ترامب، وليس نتنياهو الذي يرتكبُ جنوناً، عندما يعمِد إلى تجويع الغزّيين تكتيكاً تفاوضياً، على ما كتبناه قبل أن تكتبه زميلةٌ حصيفةٌ في “نيويورك تايمز”.
المصدر: العربي الجديد