
تشهد الحالة السورية اليوم استقطابات سياسية وهوياتية حادة، وتتسم بصعود الانتماءات الفرعية وانخفاض الانتماء الأعلى وهو الانتماء السوري لدى كثيرين، إلى درجة أن هناك مفاضلة يقوم بها بعض المهتمين بين حسنات “السورية” وسلبياتها، تحت عناوين: الحق في تقرير المصير، أو الفيدرالية، أو الحقوق المهضومة أو الخوف من المستقبل، وعدم الشعور بالأمان؛ مما بات يشكل خطراً على الكيان السوري عامة.
هناك من ينظر إلى تلك الاستقطابات بصفتها ضيق أفق أو قصر نظر أو ضياع هوياتي أو إساءة فهم لحدود حرية التعبير ومفاهيم الانتماء، لأنه من المفترض أن سوريَّة السوريين ليست موضع مناقشة، أو أخذ ورد، تلك مرحلة تجاوزناها منذ ما يقارب قرن من الزمان.
من جهة أخرى يمكن النظر إليها، إنْ بقيت في حدود المناقشة والتساؤل، على أنها حالة صحية تحاول إعادة النظر في مفاهيم الهوية السورية؛ التي لم يُسْمح لها أن تنمو من الداخل كديناميات من الأدنى إلى الأعلى، وغالباً ما كان نموها من طرف النظام المركزي في دمشق، الذي لم يسمح لها أن تفرز دينامياتها وأشواكها لتقوم بتقليم نفسها بنفسها. وغالباً ما كان ذلك الفرض متسماً بالقوة وشعارات المركزية، أو الوقوف خلف قضايا كبرى، فقدتْ كثيراً من قيمتها (قضايا عربية واشتراكية ووحدوية).
ولدتْ فرصة للمقايضة والمجاكرة والإزعاج بين شرائح في السويداء والسلطة المركزية، حتى أنك لا تجد خارطة طريق للمطالب، أو أن بعضها خارج منطق الدولة. واتسعت الهوة نتيجة لحالة الضعف السلطوي من السلطة المركزية في العاصمة، ذات الإرث الثقيل من النظام الساقط، وعدم وجود خارطة طريق لديها، وغياب الإعلام، وتاريخها الإشكالي.
إضافة إلى وجود لاعب خارجي “هو العدو التاريخي” علماً أن معظم السوريين في السويداء وغيرها لا يحتاجون لمن يشرح لهم أن إسرائيل، متمثلة في نتنياهو خاصة، لا تحمي أقليات بلدها، بل إن مجتمعها يتشكل من طبقات البيض والسود اليهود الإسرائيليين أنفسهم وسوى ذلك من خراب اجتماعي. من دون أن تغيب عن أعين السوريين ما ترتكبه من مجازر بحق الفلسطينيين. إضافة إلى أنه لم يسبق في تاريخ الدروز السوريين أن ظنوا أن إسرائيل يمكن أن تحميهم، بل إن معظم دروز الجولان السوري المحتل متمسكون بهويتهم السورية ويرفضون الهوية الإسرائيلية ولهم تاريخ لافت بالالتزام بقيم سوريتهم.
بات من اللافت على المستوى الفكري مؤخراً في ظل المعمعة السورية أنك ما إنْ تنشر منشوراً أو تكتب مادة عن الشيخ الهجري حتى ينطَّ أمامك عدد كبير من المتابعين والقراء، مستعملين معجماً تخوينياً متكلساً، يحاول أن يعيدك إلى (أنت ونحن) لا يعني لديك مثلما يعني له لأنك لا تعده آخر مختلفاً بل آخر أخ وشريك وصديق، وهو بذلك يتخذ منه وسيلة دفاعية ليقول لك: هذا ليس من حقك بل من حقنا وحدنا!
يفوت كثير من “حماة الديار” أولئك، و”حراس الفضيلة” الشعبويين أننا في السياسة يمكن أن نناقش مواقف كل الشخصيات التي انشغلت بالشأن العام. وهو حقٌّ متاح للجميع، له ولي، من كل الأعراق والانتماءات والشرائح، وأنني حين أناقش مواقف هذه الشخصية أو تلك فإنني أناقش مواقف قد تتبدل وتتغير تبعاً للقضية المطروحة. وليس أشخاصاً لهم صفة القداسة لديه، لأن صفة القداسة هذه تتلاشى؛ حين يغادر الشيخ، أيّ شيخ اجتماعي أو ديني من كل الشرائح السورية، جانبه الاجتماعي أو الديني، لينتقل إلى الشأن السياسي والوطني السوري، الذي قد يضر أو ينفع عموم السوريين. بل إنني بالمفهوم البحثي والمعرفي؛ من حقي أن أناقش أيَّ قضية أو شخصية سورية أو غير سورية.
وفي الوقت نفسه ذلك حقٌّ للسوري الآخر، كي يناقش أي شخصية يظن بوهمه أنها تمثل أي سوري آخر أو تعبر عنه، وإنْ اعترض أحدٌ على نقاشه أو جره نحو مسارات طائفية من حقه أن يلومه ويقول له: في الشأن السياسي السوري من حق جميع السوريين النقاش والحوار مادامت بوصلتنا البلد ومصالحها!
لا مقدَّس في عالم الساسية، فالسياسة هي مصلحة الناس العامة، وإدارة شؤون البلد، وكل مشتغل فيها يخطئ ويصيب، وهي في الأساس متبدلة متغيرة: بوصلتها ثوابت البلد وأخلاقياته وقيمه وحدوده الجغرافية.
أول ما تبدي رأيك البحثي في مواقف تخص السويداء ينطُّ نفرٌ من الشعبويين والمثقفين أحياناً ليقولوا لك في نوع من “التذاكي والفهمنة” ليتحدثوا عن التدخل التركي!
كأنك أنت الباحث أو المحلل أو المثقف قد استدعيته، أو قمتَ به، أو أُخِذَ رأيك به، وهذا نوع من الهروب المكشوف من مناقشة القضية الأساسية التي تريد أن تناقشها معه نحو مخرج له يريحه، وهو بذلك يخرج القضايا من سياقاتها، ويحتج بالماضي لتمييع قضية من الحاضر. وينسى السؤال الأهم: لماذا لا تحركه سوريتُه كي يناقش هذا التدخل أو ذاك، وهل اعترضتَ على نقاشه، أو لمته عليه؟ هذا حقه كمواطن سوري في أن يناقش كل أنواع التدخلات لا عيب عليه ولا تثريب، ويجب أن لا ينتظر موافقتي أو موافقة غيري ليناقش ذلك، بل إن ذلك واجب البلد عليه!
علماً أنه، بحثياً، من الصعوبة الموازنة بين الموقف التركي والإسرائيلي تجاه سوريا لاعتبارات تاريخية وجغرافية ودينية وفكرية ووجودية، ومع ذلك من حق أي باحث أن يناقش كل ذلك ويعترض ويرفض، لكن ليس كمدخل من الهروب من مناقشة مواقف شخص مقدس لديه دينياً، قرر الدخول في عالم السياسة. ويبدي مواقف تخص الوطن السوري وقد بات من حقنا أن نناقش مواقفه ونحللها ونبحث عن خلفياتها وعن الداعمين لها وأسبابهم، وندينها إن كانت خاطئة، ولا ننتظر إذناً من أحد، لأننا لا نناقش في هذا السياق قضية مذهب أو جانب ديني، علماً أنه بالمفهوم البحثي كل القضايا والتفصيلات لكل الشرائح البشرية متاحة للنقاش والحوار والمعرفة. مع معرفتي أنه من الصعب لدى السوريين المتمترسين خلف معتقد ديني ما الفصل بين الشغل في السياسة والخلفية الدينية لدى من يعتقدون بقداستهم.
فات سوريون كثيرون يظنون أن انتماءهم المحلي يتفوق على انتمائهم السوري، أن سورية السوريين تسمح لهم بحق المناقشة والمعارضة لمواقف الشيخ الهجري السياسية، مع احترامهم لمكانته الدينية والاجتماعية، مثلما متاح لابن جبل العرب أن يناقش ويعترض ويحتج على موقف أي سوري آخر، بغض النظر عن انتمائه أو خلفيته الدينية إن قرر الدخول في عوالم السياسة.فالمواطنية السورية تتيح للدرزي والكردي والعلوي السوري… مناقشة مواقف أي شخصية والاعتراض عليها بدءاً من الرئيس، وصولاً إلى أصغر مشتغل في السياسة.
لا يوجد في السياسة “نحن وأنتم” لي حصة لا تختلف عن حصتك في أي سوري، ما دام هدفنا المحافظة على بلدنا وحمايته مما يتعرض له.
لا نقدِّس سورياً في السياسة، قد يعجبنا موقف ما فنشيد به، وقد لا يعجبنا موقف آخر فنعترض عليه ونكشف جوانبه المختلفة ونحللها، لسنا موالاة “على بياض”، ولا معارضة هدفها الاعتراض لأجل الاعتراض، بوصلتنا بلدنا ومصالحه العليا، لقد آن لنا أن نخرج من قوقعات التصنيف الثابت والأيديولوجيات الحزبية المتكلسة.
خبرة كثير من الشخصيات الدينية ضعيفة في السياسة لأن هذا ليس ميدانهم، أو مجال عملهم، وإضفاء صفة القداسة عليهم في هذا الجانب تعني مواتاً للبلد وانتحاراً، ولا يوجد سوريّ عاقل يريد بلده أن يموت أو يتلاشى أو يضمحل دوره أكثر وأكثر، أو ينمي عوامل الشقاق مع السوري الآخر.
المواطنة تعني في وجه من وجوهها أن حصة الانتماء للسوريّة لدى كل عرق أو طائفة أو شخصية ينبغي أن تكون أكبر من انتمائه للدائرة الأصغر، ومن دون أن يعلو هذا الانتماء الوطني في ظل قيم المواطنة لا مستقبل للبلد، بالتأكيد هذا ليس ضربة حظ، بل تراكم من الثقة والحقوق والواجبات والعمليات الديمقراطية وتشكل الهوية والشعور بالعدل والإنصاف.
من هنا فإنه من واجب السلطة في سوريا حاضراً ومستقبلاً أن تعمل على هذا الجانب وأن تنميه، بالتشاركية والديمقراطية وتفعيل القانون وصيانة السلم الأهلي والعدالة الانتقالية وقيم المواطنة.
من جانب آخر، وبعيداً عن السياسة، حصتنا اليوم كسوريين، ليسوا دروزاً، كبيرة في الشيخ الهجري وعائلته ذات التاريخ الرمزي، نظراً لظروف البلد الاستثنائية، وهي حصة اجتماعية دينية في جانب منها وتنسجم مع قيم الموحدين الدروز، فقد عهدنا رجال الدين الموحدين يجمعون ولا يفرقون، ويحرصون على حماية الأوطان، هذا عشمنا فيه والمنتظر منه، وهو ليس وحيداً في هذا المجال بل هذا دأبُ بني معروف الموحدين، ولنا في الثورة السورية وسيرة سلطان باشا الأطرش خير مثال. ولن يغيب عن بال السوريين رعاية الشيخ الهجري لحراك ساحة الكرامة في السويداء أكثر من عام ضد النظام الساقط.
ومثلما هذا عشمنا بالشيخ الهجري و ما يمثل، كذلك نريد منه أن يكاشفنا كأخوة سوريين له بهواجسه، ويشاركنا همومه نحن المشغولين مثله بشؤون بلدهم، الحريصين عليها، بعيداً عن الخارج المتربص بنا، فنحن أقرب إليه منهم بكثير.
ونعلم يقيناً أن الانتماء الوطني هو قيمة عليا لبناء سوريا، مستقرة وقوية متنوعة ومتعددة وغنية. ونعلم أن سماحة الشيخ قد قرأ التاريخ جيداً، والتاريخ يسجل، ولنا ثقة بأنه كعهدنا به سيقف في الجانب الصحيح من تاريخ سوريا ويخطو تجاه بناء البلد وحمايته يداً بيد مع مئات الآلاف من السوريين.
المصدر: تلفزيون سوريا