دخلت انتفاضة السويداء البطولية أسبوعها الرابع، ولم تلتحق بها مناطق أخرى إلى الآن، إذا استثنينا محافظة درعا المجاورة، ومحاولات متفرقة في مدن أخرى تم قمعها بسرعة. فالنظام يحاول تطويق انتفاضة السويداء ومنع انتشارها، بعدما وجد نفسه عاجزا أمام استمرارها، ومقيّدا في خياراته القمعية، في مسعى منه لإظهارها كحراك يخص الدروز وحدهم.
تشير الأخبار الواردة من مدن أخرى إلى حضور أمني كثيف واعتقالات لمن يشتبه بأنهم قد يقومون بأنشطة معارضة، وبخاصة في مدن الساحل التي ظهر منها أفراد على وسائل التواصل الاجتماعي يدعون علنا إلى تنحي رأس النظام.
إذا نظرنا إلى الدروز كجماعة أهلية متماسكة، في إطار تصور طائفي للاجتماع السوري، وهذا هو تصور النظام والجماعات الإسلامية، فسوف نستغرب مغامرتهم الخطيرة في إعلان القطيعة التامة مع النظام، فهم جماعة صغيرة قياسا للجماعات الأخرى، ولا طموحات لديها للاستئثار بالسلطة على كل سوريا. كذلك لا يسمح حجم المحافظة ولا كثافتها السكانية ولا مواردها بأي تفكير في حكم ذاتي أو انفصال على ما تحاول أبواق النظام اتهامهم بين اتهامات أخرى أكثر تهافتا بعد. وعلى أي حال كان تاريخ هذه الجماعة هو تاريخ التمسك بالانتماء الوطني السوري، وما زال هذا المزاج الوطني هو السائد في الحراك الحالي أيضا.
لا ينبع الاستغراب، في إطار التصور المشار إليه، من خروج المظاهرات بحد ذاتها، فشروط الحياة لم تعد قابلة للتحمل في كل المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وتلك الخارجة عن سيطرته أيضا، كما أنها ليست المرة الأولى التي يخرج فيها أهالي السويداء في مظاهرات احتجاجية. إن ما قد يثير الاستغراب هو رفع شعار إسقاط النظام منذ اليوم الأول للحراك، وكل الشعارات التي ميّزت المرحلة السلمية من ثورة 2011، ومنها شعار «الشعب السوري واحد» في توكيد متجدد على وطنية الانتفاضة ونفي الطابع الفئوي عنها، ونوع من إعلان الانتماء إلى تلك الثورة المهزومة، وإعادة إحياء لها.
أريد القول مما سبق إن انتفاضة السويداء ثورية تحررية لأنها ليست طالبة سلطة، بل تناضل من أجل الحرية والكرامة، وليس شعار إسقاط النظام غير تعبير عن إرادة التغيير إلى نظام سياسي تحترم فيها السلطة مواطنيها وتحسب لهم حسابا في سياساتها وقراراتها وإجراءاتها، وتكون خاضعة لإرادة الناخبين ولمحاسبتهم، ويمكن عزلها واستبدالها بغيرها بوسائل دستورية.
والحال أن الأكثرية الساحقة من ثوار الأشهر الأولى في ثورة 2011 أرادوا تحقيق الهدف نفسه، أي إسقاط النظام الدكتاتوري الوراثي الشمولي لإقامة نظام جمهوري ديمقراطي يقوم على شرعية دستورية، يحترم فيه القانون الذي يتساوى أمامه جميع المواطنين. هذا ما كان المضمون السياسي للحرية التي طالب بها المتظاهرون، ولم يكونوا أبدأ طالبي سلطة، أي طامحين للحلول محل السلطة القائمة. أما شعار الكرامة فلم يعن المطالبة بها، بل باحترامها ـ فهي موجودة ـ من قبل السلطة التي دأبت في كل ممارساتها على احتقار المحكومين ومعاملتهم كعبيد، وقبل كل شيء بتحويل النظام الجمهوري إلى وراثي. فالتوريث بذاته كان إهانة لكرامة السوريين، حتى إذا لم نحسب تغول أجهزة المخابرات التي تحصي على الناس أنفاسهم وتعاملهم كموضوع للقمع والامتهان والابتزاز.
مقابل طلاب الحرية والكرامة هؤلاء كان هناك طلاب سلطة، أعني الأحزاب والحركات السياسية والمجموعات المسلحة وأفراد طموحين أرادوا الاستقواء بالثورة للظفر بالسلطة السياسية. هذا حق مشروع بطبيعة الحال، ففي الأنظمة الديمقراطية تتنافس الأحزاب والشخصيات السياسية للفوز بالسلطة من خلال إقناع الناخبين ببرامجهم ووعودهم ورؤاهم المستقبلية. لكن هذا الحق المشروع يتحول إلى انتهازية صرفة حين ينسى الساعون إلى السلطة مصدر قوتهم وشرعيتهم، وفي حالتنا الشعب وثورته، فينفصلون عن الناس ويتركز اهتمامهم على مصالحهم الضيقة وعلاقاتهم بالدول الأخرى كما هي حال «الائتلاف الوطني» وغيره من الأجسام السياسية، وفي حالات أخرى يستأثرون بالسلطة وامتيازاتها ويتعاملون مع السكان بنفس الطريقة الاستعمارية التي دأب نظام الأسد على التعامل وفقها. هذه هي مثلا حال سلطات الأمر الواقع في الدويلات السورية القائمة في مناطق خارج سيطرة نظام الأسد. وما زال هؤلاء وأولئك يعتبرون أنفسهم حاملي لواء «الثورة»! فـ»ثورة» الإسلاميين أدت إلى تحكم جماعات مسلحة تعامل محكوميها كعبيد. أما في منطقة إدلب التي تحكمها «هيئة تحرير الشام» بقيادة الجولاني فالأمر بات أكثر وضوحا حين تحدث الرجل علنا عن «إقامة إمارة سنية» لكنه لم يكف، مع ذلك، عن ذكر كلمة «الثورة» أما لدى «الإدارة الذاتية» في الشمال الشرقي فهي «ثورة روجافا»! والحال أن كلمة الثورة التي تم تصنيمها في البيئات المعارضة وجعلها معيارا للمقبولية السياسية، مع ضبابية مضمونها وقابليته لمختلف أشكال الإدراك، تخدم أصحاب السلطات أو الطامحين إليها، تماما كما خدمت مفاهيم المقاومة والممانعة نظام الأسد.
نحن إذن أمام عملين سياسيين مختلفين، وإن كان المشترك بينهما مناخ الثورة: الأول هو النضال الثوري التحرري لملايين السوريين الذين هتفوا للحرية وإسقاط نظام لا يحترم كرامتهم، في 2011 كما اليوم في السويداء ودرعا، والثاني هو الطبقة السياسية التي تنقسم إلى نظام بشار المسيطر بقوة حلفائه الروس والإيرانيين، والمعارضة المنظمة التي تطمح إلى الحلول محل السلطة القائمة، مع تغييرات في نظام الحكم، نحو نظام إسلامي عند البعض وديمقراطي عند آخرين، وفيدرالي عند «مجلس سوريا الديمقراطية». اختبر الأول في «الدولة الإسلامية» البائدة، وفي إدلب ومناطق «الجيش الوطني» الواقعة تحت السيطرة التركية؛ واختبرت «الإدارة الذاتية» في شمال شرق سوريا، كما اختبرت «ديمقراطية» الائتلاف خلال سنوات استئثارها بـ«التمثيل» السياسي للثورة.
جميع هذه التجارب المعنية بالصراع على السلطة، لا علاقة لها بثورة الحرية التي أطلقها السوريون في 2011، ويستأنفونها اليوم في السويداء وهي كامنة في صدور ملايين السوريين في المناطق الأخرى وفي المهاجر.
المصدر: القدس العربي