
غالباً ما تلجأ الحركات والجماعات التي تستولي على السلطة بقوّة السلاح إلى تحصين ذاتها دستورياً وقانونياً بإيجاد مرجعية تُشرعن لها سلوكها – عسكرياً وسياسياً – من جهة، وتوفّر لها النأي عن المساءلة أمام القضاء من جهة أخرى. وهكذا بات مفهوم الشرعية الثورية بديلاً – من المفترض أن يكون بديلاً مؤقتاً – عن الشرعية الدستورية.
في سوريا، كان فرض قانون الطوارئ منذ آذار 1963 هو الحالة القانونية الموازية للشرعية الثورية. ولعلّه من اللافت في الأمر أن جميع السلطات التي تعاقبت على حكم البلاد من خلال الاستيلاء على السلطة بالقوة، وعلى الرغم من تباينها سياسياً أو أيديولوجياً، إلّا أن ثمة ناظماً موحّداً لتفكيرها يتجسّد في أن ما تقوم به إنما جاء تلبية للمصلحة الوطنية العامة وتطلعات الجمهور العام. وبعيداً عن مصداقية هذا الزعم أو عدم مصداقيته، فإن هذا الإخراج القانوني لسلوك السلطات أصبح عرفاً لازماً لأيّ تغيير سياسي في البلاد. ثم كانت الخطوة اللاحقة التي عزّزت الكارثة الدستورية في سوريا، والتي تجلّت في تحويل الحالة المؤقتة لفرض قانون الطوارئ إلى حالة دائمة، الأمر الذي منح الحاكم وأدواته السلطوية حصانة لمجمل الانتهاكات بحق المواطنين، بل بات قانون الطوارئ هو الستار الذي يخفي خلفه جميع موبقات السلطة، التي تحوّلت – بفعل استمرارها وتكرارها المنهجي – إلى مقتلة حقيقية تجسّدت في جميع أشكال الإجرام السلطوي، من اعتقال طويل الأمد وتصفيات جسدية واغتصاب الحقوق والتفرّد بالقرار والتحكّم بمصير البلاد وفقاً لمشيئة الحاكم، الذي لا ينبغي أن ينازعه أحدٌ حكمتَه وحرصَه على مصلحة البلاد ومواطنيها.
ما حصل في سوريا يوم الثامن من شهر كانون الأول الماضي كان حدثاً مغايراً، بل يمكن القول إنه الحدث النوعي الأول في تاريخ سوريا الحديث، باعتباره جاء ثمرةً لحراك شعبي ثوري استمر أكثر من ثلاث عشرة سنة، وتكلّل بنصر عسكري لمجموعة من الفصائل العسكرية المناهضة للسلطة، ولم يكن نصراً مزعوماً لقائد انقلابي على قائد انقلابي قبله، كما كان يحدث في جميع التحوّلات السلطوية السابقة.
ما حصل في سوريا يوم الثامن من شهر كانون الأول الماضي كان حدثاً مغايراً، بل يمكن القول إنه الحدث النوعي الأول في تاريخ سوريا الحديث
لعله كان بإمكان السلطة التي وصلت إلى سدّة الحكم في الثامن من كانون الأول الماضي اللجوء إلى ما يحصّن سلوكها – دستورياً – بما في ذلك العودة إلى قانون الطوارئ، أو أيّ إجراء قانوني آخر يمنحها غطاءً شرعياً لشتى ضروب سلوكها، بما في ذلك مواجهتها لمناهضيها، سواء أكانوا من موالي النظام البائد، أو من جماعات أخرى ترى أن التغيير لم يكن لصالحها. إلّا أن قيادة السلطة الحالية لم تلجأ إلى ذلك لأسباب عدّة، لعلّ أبرزها:
أولاً – التغيير الحاصل في سوريا نتيجة لثورة شعبية بدأت في آذار 2011، وتضمنت مطالب شعبية عامة أقرّ بمشروعيتها وعدالتها معظم الأطراف العالمية والكيانات الاعتبارية الأممية. وهي ثورة لم تستهدف الممارسات السلطوية الجائرة فحسب، بل استهدفت أيضاً البناء القانوني المُشرعن لتلك الممارسات، الذي استثمره النظام البائد طوال عقود مضت. وبناءً عليه، فمن غير المنطقي أو المقبول أن تعود قوى الثورة للاحتماء بالأدوات والإجراءات القمعية ذاتها التي كانت هي أبرز ضحاياها، بل لعلّ القطع مع إرث الإجرام الأسدي ينبغي أن يكون موازياً لقطيعة كاملة مع جميع أشكال استثماراته والتفافاته على الدستور وما يتفرّع عنه من قوانين.
ثانياً – منذ انطلاق معركة “ردع العدوان 27 – 11 – 2024″، أعلنت قيادة إدارة العمليات العسكرية آنذاك عن استراتيجيتها الأمنية الموازية لعملية التحرير العسكري، التي كان عمادها الرحمة واستبعاد منطق الثأر والانتقام. وبالفعل، ما يزال سلوك السلطة الجديدة محافظاً – بنسبة متقدمة – على هذه الاستراتيجية، وذلك بعيداً عن الانتهاكات والأخطاء التي حدثت هنا أو هناك.
اليوم، تواجه القيادة الجديدة للبلاد تحدّياتٍ أمنيةً كبيرة، تتجسّد في تمرّد عسكري وأمني في أكثر من بقعة جغرافية داخل البلاد.
ثالثاً – لعله من الصحيح أن الإطاحة بنظام الأسد وجدت ترحيباً عربياً ودولياً واسعاً، إلّا أن هذا الترحيب – ومنذ لحظاته الأولى – كان مرهوناً بعدة اشتراطات ذات صلة بسلوك القيادة الجديدة للبلاد حيال ما تدعوه الأطراف الدولية الأقليات، إضافة إلى مسائل أخرى. ولعل هذه الاشتراطات باتت وازعاً حقيقياً لقيادة البلاد في الحساب الدقيق لسلوكها على الأرض، حرصاً على حيازة المشروعية الدولية من جهة، وكذلك حرصاً على أن يتكلل الخطاب الدولي المتعاطف مع الحالة الجديدة برفع للعقوبات الاقتصادية، التي بات استمرارها عائقاً حقيقياً أمام أي حالة تعافٍ أو إعادة إعمار.
اليوم، تواجه القيادة الجديدة للبلاد تحدّياتٍ أمنيةً كبيرة، تتجسّد في تمرّد عسكري وأمني في أكثر من بقعة جغرافية داخل البلاد. ولا شكّ أن هذا التهديد يستند، في أحد جوانبه، إلى هشاشة الحالة الأمنية في البلاد وغياب الضبط الأمني، وافتقار الحكومة إلى الكوادر البشرية ذات الكفاءة المهنية في بسط الأمن على سائر الجغرافيا السورية. وهو كذلك يستند إلى ماكينة إعلامية دولية جعلت من (حماية الأقليات) مجرد شعارٍ بعيدٍ عن محتواه الإنساني، وكذلك بعيد عن شرطه التاريخي المواكب للحالة السورية، الأمر الذي تمخّض عن مفارقات شديدة الإيلام والغرابة في آن معاً، ونعني بذلك الدعوات المتتالية للكيان الصهيوني لحماية الأكراد والدروز والعلويين في سوريا. ولعلنا لا نحتاج إلى التأكيد على أن الوقاحة الإسرائيلية لا تتجلّى في التدخل السافر في شؤون الآخرين والاعتداء على سيادة الدول فحسب، بل أيضاً في القناع الإنساني المُستعار الذي تحاول أن تستر تحته كلّ تاريخها الإجرامي بحق العرب والمسلمين. فنخوة إسرائيل حيال الأكراد والدروز لم تتحرك طوال قيام نظام الأسد بقتل السوريين على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم، ولكن فقط حين سقط الأسد تحرّكت الحمية الصهيونية تجاه الأقليات السورية، موازاةً مع استمرار إجرامها بحق سكان غزّة، الذين قد يكون انتماؤهم إلى صنفٍ إنساني آخر قابلٍ للاستباحة وفقاً للمزاعم الإسرائيلية.
إحجام الحكومة الجديدة عن مواجهة معظم أشكال التمرّد القائمة بقوّة السلاح، وإيثارها طرق الحوار والتفاهم مع الرموز الاجتماعية والدينية والقوى المجتمعية في مناطق التمرّد، لا يعود إلى ضعف في امتلاك قوة السلاح ووسائل الردع أو العنف، ذلك أن مواجهة تلك الحالات من التمرد لا تحتاج إلى طيران أو دبابات أو صواريخ. وليس ما يردعها عن مواجهة تلك الحالات هو الاعتبارات الأخلاقية والخشية من دخول البلاد في دوامة العنف فحسب، بل ربما كان الرادع الأهم هو غياب المرجعية القانونية نتيجة للفراغ الدستوري الذي تعيشه البلاد منذ أعلنت القيادة الجديدة حلّ الدستور السابق والجيش ومجلس الشعب في 29 كانون الثاني 2024.
في الثاني من شهر آذار الجاري، أعلنت قيادة البلاد عن تشكيل لجنة لكتابة إعلان دستوري ليكون مرجعية دستورية للبلاد في المرحلة الانتقالية. ولعل هذا الإعلان هو أحد الاستحقاقات التي انتظرها السوريون، على أمل أن يكون ذلك تأسيساً لخطوات أخرى لا تسهم في استكمال البناء السوري الداخلي فحسب، بل تكون رادعاً للتدخلات العدوانية الخارجية أيضاً.
المصدر: تلفزيون سوريا