قبل حدوث الثورة السورية في 2011، كانت هناك أمنيات لدى بعض السوريين، وقد عانوا الويلات، قائلين: لو لم يغادر الاحتلال الفرنسي سورية. في أثناء الاحتلال الأميركي للعراق 2003، تكرّرت تلك الدعوات، عسى أن يكمل الأميركان طريقهم إلى سورية. في أثناء الثورة السورية، برزت دعوات كثيرة مؤيدة لأشكال متعدّدة من التدخل الخارجي أو الحماية وحتى الاحتلال، وفعل ذلك النظام والمعارضة! الأمر ذاته يتكرّر في هذه الدولة أو تلك، والآن لبنان، وهناك من عمّم مصطلحاً سياسياً، أن الاستبداد احتلال داخلي والاستعمار الأجنبي خارجي.
دعوة بعض اللبنانيين قبل أيام إلى عودة احتلال الفرنسي، وبحضور الرئيس الفرنسي ماكرون، جاءت بعد انتفاضةٍ لم تصل إلى أهدافها، وانفجارٍ دمّر نصف مدينة بيروت ومرفأها، وحصيلة أوليّة للقتلى تتجاوز 150 شخصاً، وآلاف الجرحى. إذاً جرّب اللبنانيون الانتفاضة، وواجهوا عجزاً في تغيير النظام الطائفي الفاسد، وهناك شعور بأنّ ثورة جديدة لن تغير الوضع القائم، وأن النظام ذاك لن يتغيّر أبداً. هذه حيثيات تلك الدعوات التي لا يمكن تحميلها، كما حدوث الانتفاضة، بسبب تحالف ميشال عون وحزب الله. ولا يمكن تبرئة التحالف الآخر في النظام اللبناني من الرداءة والفساد ونهب اللبنانيين، أي تحالف 14 آذار. ويضم هذا التحالف طائفيين، وفاشلين في كل القضايا، ومنها عدم تأمين الكهرباء ومواجهة حزب الله لمنعه من المشاركة في الحرب ضد الشعب السوري، وكذلك في الصمت عن قضايا الفساد الكثيرة، والتي شملت تلوث الماء والهواء والإفقار الواسع ونهب مدّخرات اللبنانيين وتهريب المليارات إلى الخارج. نظام كهذا، وبكل تحالفاته، هو المسؤول عن الانفجار، فالانفجار ليس ابن يومه، وبالتالي تتحمّل كل الطبقة السياسية الفاسدة، والتي ترفض استقلال القضاء، وتغيير اللعبة السياسية تدمير لبنان.
لا يمكن للعاقل إلّا أن يرفض تلك الدعوات، وفي أي سياقٍ جاءت به، وربما هناك اشتراطات كثيرة لبعضها، في حال امتنعت كل أسباب التغيير الداخلي، ولكن الأساس رفض تلك الدعوات. القضية ليست هنا، وإنما في أسباب حصول تلك الدعوات. هنا يجب الحفر.
النظام اللبناني الذي وافق على دور أكبر لحزب الله في المرفأ وفي المطار وفي الحدود وفي السلاح، هو ذاته الذي أعاد إنتاج زعماء الحرب، ليكونوا زعماء السياسة بعد اتفاق الطائف 1989؛ زعماء الحرب هم قتلة، ناهبون، ملحقون بالدول، لديهم جيوش من التابعين، وبالتالي هل يمكن لهؤلاء أن يفكّروا ببناء دولة حديثة، بدولة تستند إلى فكرة المواطنة وحقوق الإنسان، والنهوض بلبنان! هذه استحالة كاملة. هؤلاء يطلبون الآن معونات دولية، وكأنهم لم يسرقوا لبنان. المليارات موجودة في البنوك الأجنبية، وهي أموال الشعب اللبناني، وإعادتها ومحاسبة أصحابها، هو شرط أول للتغيير في لبنان. أيضاً هذا غير ممكن من دون ثورة متجدّدة، الصعوبات التي تجد نفسها فيها، هي بالضبط ما يدفع إلى تلك الدعوات.
لم يخطئ من قال إن الطغاة يأتون بالغزاة، ولبنان يحكمه نظام طغياني بشكلٍ مميز وخاص، نظام فكّك المجتمع إلى طوائف، وأفقرها، وأذلّها، وحشرها بأسوأ أشكال التفكير، أي الطائفي. ولكن تفاقم الأوضاع أطلق ثورة في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وتعثرت، وهي تتجدّد كل فترة، وتكتنف تجدّدها ونجاحها عقبات كثيرة، وبالتالي أضاف تدمير نصف المدينة والمآسي الناتجة عنه سبباً جديداً للثورة، ولدخول قطاع جديد من الشعب إليها، وتعليق المشانق للطبقة السياسية اللبنانية يعبر عن عمق النقمة والانفجار الشعبي القادم.
وتؤكد السفينة الروسية التي نقلت أطنان نترات الأمونيوم عام 2013، والمتجهة من جورجيا إلى موزامبيق، المؤكّد، على الرغم من أن متابعين قضائيين لها أعادوا، مرة تلو الأخرى، حتى عام 2018، وأن أخباراً تؤكد أن التقارير عنها وصلت إلى رئيسي الحكومة حسان دياب والجمهورية ميشيل عون في 2020، ضرورة اتخاذ احتياطات كاملة بشأنها أو إخراجها من المرفأ ومن لبنان. ويوضح هذا الوضع رداءة السلطة القضائية في هذا البلد، ومقدار الفساد والأسرار التي تمانع ترحيل تلك الأطنان، وتبين التجاهل الكامل للخطورة الممكنة على بيروت ومرفئها وأحيائها وسكانها. ويوضح هذا ضعف السلطة القضائية، وغياب أي دورٍ للرأي العام وللصحافة وللمشاركة الشعبية في قضايا خطيرة، كقضية أطنان نترات الأمونيوم.
بعد نزول كثيرين من سكان لبنان إلى مناطق الدمار لرفع الأنقاض والمساعدة في الإسعاف وسواه، كان أول الواصلين الرئيس الفرنسي ماكرون. رأى وعاين حجم الدمار قبل شخصيات النظام اللبناني، وهذا وحده، وبغضّ النظر عن المنظار الفرنسي له، وهو بالتأكيد ينطلق من فكرة قديمة، أن لبنان لفرنسا، شكّل سبباً إضافياً لتلك الدعوات. والأسوأ إطلاقه تصريحات تحتم على أية دولة تحترم سيادتها طرده من لبنان فوراً، كأن يقول إن المساعدة لن تمر عبر المؤسسات الفاسدة، بل ستصل إلى الشعب مباشرة. المشكلة أن النظام ذاك لا يمتلك أية مرجعيات أخلاقية أو وطنية، وبالتالي يستعين بمصطلحاتٍ أقرب إلى “الشحادة” لإنقاذ لبنان، وكذلك يستقبل رئيس دولة يوجه لها انتقاداتٍ حادّة، وهي أقرب إلى الإهانة منها إلى النقد الدبلوماسي.
انتشرت بعض الأخبار، وتؤكد أن ماكرون جلب معه شروطاً معينة لدعم لبنان. وتقريباً، نتيجتها تصفية حزب الله، وهي أقرب إلى مطالب إسرائيل، لإنهاء سلاحه وقطع علاقته مع إيران وسواها. وليس هناك من دقة في صوابية تلك الأخبار أو كذبها، ولكن بالتأكيد هناك ضغوط أوروبية شديدة ضد حزب الله، وتتزايد الدول التي تزعم أنه منظمة إرهابية، وأن أي دعم لإخراج لبنان من أزمته الاقتصادية لن يكون قبل حصول تغيير في السلطة، أي إنهاء هيمنة حزب الله عليها، بشكل مباشر أو غير مباشر.
الآن، لبنان في حالةٍ كارثية، وليس بيروت فقط، والمساعدات لن تتدفق إلا بحدودٍ دنيا ومن أجل مساعدة المتضرّرين. أمّا أكثر من ذلك، فهناك قرارات دولية تمنع ذلك. إذاً لن تتغير أحوال النظام الذي تسبب بالانفجار، والثورة التي بدأت تطالب بنصب المشانق لن تتوانى عن التجدّد في الأيام المقبلة، وحتى المرفأ لن يتم إصلاحه إلا بشروطٍ، تُخرجه عن سيطرة الدولة وحزب الله! وقد يبقى على حاله، وترسو بيروت في إفقار مستمر ومشكلاتٍ ليس لها نهاية.
لبنان ليس في حاجة إلى احتلالٍ فرنسيٍّ أو سواه؛ فالنظام الحاكم الحالي، ومعه الطبقة السياسية المختلفة التيارات، ما زالت تقيم أفضل الصلات مع فرنسا، ولكن الجديد هو نفاد صلاحيات تلك الطبقة، وعدم قدرتها على تأمين مصالح الاستعمار بكل أشكالها. وبالتالي هنا الجديد، ويقول إن العالم الخارجي لم تعد له مصلحة مع نظام النهب والتطييف، فهل تعي قوى الثورة اللبنانية الوضع الجديد، وتقرأ الواقع جيداً، وتضع تصوراتٍ عنه، بما يشطب نظام النترات أمنيوم، كما صار يقال، وتؤسّس لنظامٍ جديد يمثل كل اللبنانيين، وترفض هي والثورات العربية أي تدخلات إقليمية أو أجنبية؟
المصدر: العربي الجديد