
يمثل ما قام به نتنياهو من تصعيد للحرب والاحتلال في الضفة الغربية مؤشّراً إلى الاستراتيجية الكبرى للفاشية الإسرائيلية، التي تعتقد أنها تخوض حرب “حسم” لإنهاء الصراع الصهيوني – الفلسطيني لصالحها. وتحولها نحو الاحتلال العسكري الكامل للضفة الغربية، وترسيخ حالة “سلطة فلسطينية بلا سلطة تحت الاحتلال الكامل”، ما يعني أن المنظومة الصهيونية لم تعد تكتفي بتحوّل الاحتلال الاستيطاني إلى نظام الأبارتهايد الأسوأ في التاريخ، بل تريد حسم الصراع بالتطهير العرقي سواء في غزّة أو الضفة الغربية، من خلال تخفيض الوجود الديمغرافي بالترحيل، وتعطيل تأثيره بجعل الوجود البشري الفلسطيني مؤقتاً وخانعاً، عبر كسر مقاومته.
وبعد أن اضطرّ ترامب إلى التراجع الضمني عن دعوته إلى ارتكاب جريمة حرب بالتطهير العرقي لسكان غزّة، بعد أن لقيت دعوته استنكاراً ورفضاً فلسطينياً وعربياً ودولياً، عاد إلى الحديث عنها بتحريض إسرائيلي قاده نتنياهو ووزير الاستراتيجية الإسرائيلي دريمر، بعد أن أقنعوه بفكرة استحالة فصل المقاومة الفلسطينية وحركة حماس عن حاضنتها الشعبية، لتبرير تهجير شامل لكل أهل القطاع، بل كرّر، في أكثر من مناسبة، فكرة ضم الضفة الغربية أيضاً إلى إسرائيل.
لا يجوز تهويل ما يدعو إليه ترامب، ويسعى إليه نتنياهو، أو تصويرهما كِليهما كلّيّي القدرة، وقادريْن على تحقيق كل ما يطلقانه من دون خجل من دعوات إلى ارتكاب جرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني. وفي الوقت نفسه، لا تجوز الاستهانة أو الاستخفاف بما يقولانه، أو بمدى الحاجة إلى التصدّي لما يطرحانه من ضم للضفة الغربية وترحيل لسكان قطاع غزّة.
قدم الفلسطينيون في جنين وطولكرم والفارعة وسائر أنحاء فلسطين نموذجاً رائعاً من التكاتف والالتفاف حول المتضرّرين من جرائم الاحتلال
ولا بد من ثلاث خطوات استراتيجية للتصدّي لهذه الدعوات:- أولاً: فلسطينياً، تنحية الخلافات الداخلية، وتخلّي الواهمين عن أوهام إمكانية الحفاظ على الذات عبر استرضاء الجانب الأميركي، ويكفيهم ما فعله ترامب بزيلينسكي عبرة. والتوجه الصادق نحو تنفيذ اتفاق بكين وتشكيل حكومة وفاق وطني فوراً وقيادة وطنية موحدة للنضال الوطني تعيد لمنظمّة التحرير دورها القيادي في الكفاح الوطني، والعمل على توحيد مقومات النضال الوطني الفلسطيني.
ثانياً: عربياً، لا بد من أن يُصدر العرب في مؤتمر القمة المقبلة موقفاً حاسماً، واضحاً وقوياً، باللغة والمضمون، يرفض التطهير العرقي جملة وتفصيلاً، بل تسميته باسمه الحقيقي في القانون الدولي “جريمة حرب”. وأن يترافق ذلك مع دعم سياسي واضح لمواقف مصر والأردن والسعودية الرافضة خطة ترامب للتطهير العرقي. وأن يصاحبه توفير سلة أمان مالية، تدعم الصمود الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس والقطاع، وتدعم مصر والأردن إذا تعرّضا للابتزاز المالي الأميركي لرفضهما مخطّط ترامب للتطهير العرقي، وتدعم خطة فورية لإعادة الإعمار، من دون التخلي عن المطالبة بإجبار إسرائيل على دفع تعويضات عن الدمار الذي أحدثته في القطاع والضفة الغربية. وسترتبط جدّية هذه المواقف بتأييد عربي صريح لجهود الوحدة الفلسطينية عبر تطبيق اتفاق بكين.
لا تجوز الاستهانة أو الاستخفاف بما يقوله ترامب ونتنياهو، أو بمدى الحاجة إلى التصدّي لما يطرحانه من ضم للضفة الغربية وترحيل لسكان قطاع غزّة
ودولياً، لا بد من تصعيد حملة واسعة تعيد استنهاض الحراك التضامني مع نضال الشعب الفلسطيني، وتتصدّى لمحاولات نتنياهو استئناف الحرب على غزّة، ولمساعي التطهير العرقي، وأن يترافق ذلك مع حملة اعلامية لجذب الانتباه إلى الحرب الجديدة التي تشنها إسرائيل على الضفة الغربية بكل مكوناتها. ولا بد من لفت الانتباه إلى أمور مهمّة تحدث في الساحة الفلسطينية، من أبرزها الانشغال عن أكبر خطر يهدّد الشعب الفلسطيني، يتجاوز في حجمه ومقاصده نكبة عام 1948، بصراعات داخلية، لا مبرّر لها، ولا طائل من ورائها، خصوصاً عندما تتخذ طابع الصراع على السلطة التي صارت بسياسة نتنياهو “سلطة بلا سلطة، تعيش مثل شعبها تحت الاحتلال الكامل”. بالإضافة إلى خطر فقدان الشعب الفلسطيني حقه في تمثيل نفسه، ومحاولات تهميش منظمة التحرير، وفرض وصايات خارجية على الفلسطينيين، أياً كان مصدرها، من شأنها التفريط بمصالح الشعب الفلسطيني. ولا يمكن تحقيق ذلك كله من دون أن يرى العرب والعالم الفلسطينيين صفاً واحداً موحداً في مواجهة المؤامرات عليهم.
قدم الفلسطينيون في جنين وطولكرم والفارعة وسائر أنحاء فلسطين نموذجاً رائعاً من التكاتف والالتفاف حول المتضرّرين من جرائم الاحتلال، وساندوهم بكل قوة، ويجب أن يتعلم القادة الفلسطينيون، والرسميون، الكثير من هذا النموذج الرائع الذي يجسّد وحدة الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل الحرية. ولا يجوز السماح لأحد بالاستمرار في شيطنة كل دعوة إلى الوحدة الوطنية بادّعاء أنها مؤامرات ضد مصالح الشعب الفلسطيني.
وما من شك أن نجاح التصدّي الاستراتيجي يتطلب بذل كل جهد ممكن لإجبار حكومة نتنياهو على الدخول الجدّي في المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار التي نهايتها وقف الحرب، وانسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزّة.
المصدر: العربي الجديد