
شهدت تونس أخيراً تنظيم الأسبوع الثقافي التونسي الإيراني، وجاء في بلاغ (بيان) وزارة الشؤون الثقافية التونسية، ونظمه مركز الموسيقى العربية والمتوسطية والمركز الثقافي، وتضمن البرنامج عدّة أنشطة ذات طبيعة فنية وتراثية وفكرية على غرار الندوة العلمية الدولية “الحضارة الإسلامية: التراث المشترك بين تونس وإيران”، والورشتين الفنيتين في فني التذهيب والمنمنمات، والعرض الموسيقي الإيراني الذي أمنته فرقة نوبهار الإيرانية. إلا أن فقرة أثارت حفيظة بعض النخب التونسية الفكرية والأكاديمية والسياسية، وانتشر الجدل بشأنها واسعاً في مواقع التواصل الاجتماعي، وهي محاضرة أنسية خزعلي، الشخصية السياسية والنسوية الإيرانية البارزة ومساعدة الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي لشؤون المرأة والأسرة، بعنوان “مكانة المرأة في المجتمع الحديث: التجربة الإيرانية والتجربة التونسية”. ولم تنشر الصحافة وموقعا مركز النجمة الزهراء ونظيره المركز الثقافي الإيراني بتونس فيديو تسجيلياً للمحاضرة أو نصاً مكتوباً لمحتواها أو تلخيصاً لأهم الأفكار التي تضمّنتها، ولم ترشح منها قراءة محددة للتجربتين النسائيتين التونسية والإيرانية من منظور إيراني عقدي أو فكري أو سياسي. إلا أن صحيفة الشروق اليومية التونسية خصّت المحاضرة والمسؤولة الإيرانية بصفحة كاملة، ومن دون تناول محتوى ما قدّمته، واعتبرت الصحيفة التونسية، الموالية لسلطة الرئيس قيّس سعيّد، أن “تجربة النساء الإيرانيات يعرف القاصي والداني أنها الأسوأ دولياً تحت حكم نظام تيوقراطي لا يمنح النساء حقوقهن، ويسمح بجميع الانتهاكات، بما في ذلك فرض الحجاب وتزويج القاصرات”، ويضيف مقال الصحافية أسماء سحبون: “في رصيد خزعلي ما يفيد بأنها غير مؤهلة لإلقاء محاضرة علمية في تونس حول النساء، والحال أنها شريكة في قمع النساء وغير ذلك هو إهانة للتونسيات ولتاريخ تونس في منح النساء مواطنتهن كاملة”.
وفي السياق والتوجه، وقبل يوم من انتهاء الأسبوع الثقافي التونسي الإيراني، جاء بيان جمعية النساء الديمقراطيات، وهي منظمة نسوية ذات خلفية يسارية – لائكية، متضمناً إدانة إلقاء خزعلي محاضرة في تونس، بوصفها حسب نص البيان من “الوجوه الإيرانية المعروفة بتبريرها للسياسات القمعية ضد النساء الإيرانيات، خصوصاً في ما يتعلق بفرض الحجاب الإجباري، ودعمها زواج القاصرات، وانتقادها مبدأ المساواة بين الجنسين، وتورطها في قمع الحريات، فقد لعبت دوراً رئيسيّاً في إقصاء الناشطة ورسامة الكاريكاتير الإيرانية آتينا فرقداني من الجامعة وإدانتها (بتهمة الإساءة إلى قادة الأمة)، كذلك وقفت إلى جانب النظام الإيراني ودانت الاحتجاجات التي أعقبت وفاة مهسا آميني التي قتلت إثر رفضها ارتداء الحجاب”.
وتعتبر النساء الديمقراطيات التونسيات أن في حضور القيادية والجامعية الإيرانية (رئيسة جامعة الزهراء الإيرانية سابقاً) إلى تونس “رمزية سياسية ودينية تتناقض مع مسار النضال النسوي التونسي ومع الحقوق الإنسانية للنساء”. ورأت الجمعية النسوية التونسية أن وراء النشاط الثقافي الإيراني أجندة سياسية، وهي ترفض رفضاً قاطعاً تمرير أي أجندة سياسية، غرضها ترويج دعاية سياسية من خلال الأنشطة الثقافية، كذلك فإنها تدين أي خطاب أو تحرّك يسعى لنشر رؤية رجعية تتناقض مع المكتسبات التي تحققت في تونس بفضل نضالات التونسيات والتونسيين.
زيارة المسؤولة الإيرانية عالية المستوى إلى تونس تتجاوز الجانب الثقافي وما صاحبه من سجالات ومناكفات نخبوية، لتلعب دوراً سياسياً لم تتضح معالمه بعد
تعالت أصوات أخرى رافضة دعوة السياسية الإيرانية إلى إلقاء محاضرة في تونس، وتُرجم الرفض في عريضة وقعها عدة كتّاب وأكاديميين وأكاديميات حملت عنوان “لا لتمرير الدّعاية السّياسيّة في الانشطة الثّقافيّة”، رفض أصحابها تمرير الدّعاية السّياسيّة تحت عنوان التّعاون الثّقافيّ بين الدّول، مستغربين اختيار موضوع المرأة في أيّام ثقافيّة لدولة تيوقراطيّة هي من أكثر الدول قمعاً للنّساء، ومعبّرين عن امتعاضهم من استقبال تونس دعاة انتهاك حقوق الإنسان، مهما كان لونهم السّياسيّ أو المذهبيّ، حسب قولهم. ومنهم من ذهب بعيداً، مطالباً السلطات التونسية بتقديم توضيحات عن دعوة خزعلي وتمكينها من إلقاء محاضرة عن المرأة، والحال أن المرأة التونسية هي الجديرة بتسويق تجربتها ونصوصها الأساسية المنظمة، وخصوصاً مجلّة الأحوال الشخصية.
ولعلّ الجديد في الموقف من إيران وتوسع أنشطتها الثقافية والسياسية في تونس هذه المرّة، تصدّر تيارات مدنية يسارية ونسوية لمناهضة تلك الأنشطة بخلفية حقوقية تنافح عن النساء وحقوقهن، وتعتبر إيران من الدول التي لا تزال تضطهد المرأة ولا تعطيها حقوقها الأساسية، بعد أن كانت قوى دينية سلفية وغير سلفية تتصدّى للوجود الإيراني في تونس بخلفية مذهبية صرفة تعادي التشيع، وتكفّر أصحابه، وتعتبر إيران قاعدة خلفية لانتشار المذهب الشيعي في تونس.
بلغ الأمر بتلك المجموعات حدّ تأسيس جمعية “الرابطة التونسية لمناهضة المدّ الشيعي في تونس”، مستفيدة من مناخات الحرية التي وفرتها الثورة التونسية 2011-2021، ودعا رئيس الجمعية، أحمد بن حسانة، إلى “سنّ قانون يُجرّم التعدي على المقدسات من سبّ الصحابة وزوجات الرسول صلى الله عليه وسلّم”، مطالباً “الحكومة التونسية بالإسراع في غلق المركز الثقافي الإيراني وإيقاف كل البرامج الحكومية المشتركة بين تونس وإيران في مجالي الثقافة والتعليم”.
لم تستجب السلطات التونسية لمطالب بعض النخب التونسية بإصدار بيان توضيحي من وزارة الشؤون الثقافية أو من مديرة مركز النجمة الزهراء للموسيقى العربية والمتوسطية يفسّر ملابسات دعوة شخصية سياسية لها مواقف راديكالية وسجالية، وتتمتّع بموقع متقدّم في صفوف الطبقة الحاكمة الإيرانية وذات نفوذ سياسي بيّن ومعلوم، بغطاء ديني وثقافي. وكانت تلك الدعوات كمن يطلق صيحة في بئر سحيقة، لا سامع له ولا مجيب، فهي تبيّن قصور النخب التونسية في الوقوف على حقيقة المنظومة الحاكمة في تونس منذ انقلاب 25 يوليو (2021) الرئاسي، وهي منظومة اختارت تجاهل الأجسام الوسيطة الفكرية والأكاديمية والسياسية والمدنية، وعدم الحوار معها أو الاستماع إلى مشاغلها ومطالبها أو حتى مجرّد لقائها. وطوال أربع سنوات لم يجلس الرئيس قيّس سعيّد مع مفكرين أو أكاديميين، إلا من اجتماع يتيم مع ثلّة من أساتذة الاقتصاد في مايو/ أيار الماضي أثمر انتقاء بعضهم لتولي وظائف حكومية.
خطير أن تُجرّ تونس، المعروفة بحياد سياساتها الخارجية تاريخياً، لتكون حلبة صراع بين القوى الغربية والأطلسية من ناحية، وإيران وحلفائها من ناحية أخرى
كذلك غاب عن فهم النخب المحتجة على دعوة خزعلي طبيعة العلاقة التي تربط النظامين الإيراني والتونسي، خصوصاً منذ استفراد الرئيس سعيّد بالسلطة قبل أربع سنوات. وهي علاقة تقوم على ترابط استراتيجي عبّرت عنه تدوينة المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي على منصة إكس بمناسبة لقائه سعيّد الذي زار طهران لتقديم العزاء في وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي يوم 22 مايو/ أيار 2024. جاء في تلك التدوينة: “إن تبوّؤ شخصية جامعية فاضلة، مثل السيّد قيّس سعيّد، رئاسة البلاد في تونس فرصة ليقدّم هذا البلد صورة جديدة وجيّدة، بعد أعوام من الحكم الاستبدادي وقطع العلاقات مع العالم الإسلامي”. وأضاف: “يجب تحويل التعاطف والانسجام الحالي بين إيران وتونس إلى تعاون ميداني في مختلف المجالات”. ومباشرة إثر ذلك اللقاء ترجمت الحكومة التونسية تلك الأقوال إلى أفعال، من بينها إعفاء حاملي جوازات السفر الإيرانية العادية من تأشيرة الدخول إلى تونس، وإلغاء تأشيرة الدخول إلى تونس بالنسبة إلى حاملي جوازات السفر العراقية العادية في إطار السياحة التي لا تتجاوز 15 يوماً (ولمرّة واحدة كل 180 يوماً).
ومن الواضح أن زيارة المسؤولة الإيرانية عالية المستوى، والمعروفة بلعب أدوار سياسية وأخرى دبلوماسية، إقليمياً ودولياً، بتكليف من القيادة الإيرانية، تتجاوز الجانب الثقافي وما صاحبه من سجالات ومناكفات نخبوية، لتلعب دوراً سياسياً لم تتضح معالمه بعد، مستغلّة القبول الشعبي الذي تتمتع به إيران في تونس لدورها في دعم حركات المقاومة في غزّة ولبنان واليمن. لكن الخطير أن تُجرّ تونس، المعروفة بحياد سياساتها الخارجية تاريخياً، لتكون حلبة صراع بين القوى الغربية والأطلسية من ناحية، وإيران وحلفائها من ناحية أخرى، وهذا النوع من الصراعات قد يأخذ أشكالاً سياسية وأخرى اقتصادية ومالية وثالثة تكنولوجية وعسكرية وأمنية واستراتيجية ورابعة دينية ومذهبية، لا قبل للتونسيين بها ولا قدرة للدولة التونسية على تحمّلها.
المصدر: العربي الجديد