هل لا تزال فلسطين قضيّتنا المركزية؟

عدي جوني

بعد أن جرى التوصل إلى وقف لإطلاق النار، والعدوان الهمجي الذي أتى على البشر والحجر، في غزّة، وبغض النظر عن تأويلات النصر والهزيمة، بات ضروريّاً أن تُطرح تساؤلات تتجاوز الرقعة الجغرافية الخاصة بقطاع غزّة وصولاً إلى مفهوم الصراع العربي الإسرائيلي. ولعلّ من أهم التساؤلات التي أفرزها الواقع الجديد التي تتّصل بمركزية القضية الفلسطينية وقدسيّتها في الوجدان الشعبي العربي. هل يحق لنا القول إن فلسطين لمّا تزل البوصلة والاتجاه على مستوى الشارع العربي؟.

بعيداً عن الخطاب الرسمي العربي الذي واكب عملية طوفان الأقصى منذ البداية، أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي بكل أشكالها مساحة مفتوحة من النقاش، وأفرزت واقعاً غريباً بل مستغرَباً يطاول قضية كانت تحتل قبل عقد في الشارع العربي، وإن بدرجات ليست على قدر كبير من التفاوت، موقع الريادة، وتتمتع بقدسية لها بُعدها الرمزي قوميًّا ودينيًّا. ومن يراجع ما كُتب على صفحات التواصل الاجتماعي، أو نُشر على “يوتيوب” وغيره من مداولات تصدّرها “مؤثرون” على مدى عام مضى، سيجد أن هذه القضية فقدت، إلى حد كبير، موقع الصدارة في ظاهرةٍ لم تأت حُكماً من فراغ.

في كتابها ’علم الاجتماع السياسي المعاصر: العولمة، والسياسة، والسلطة‘ (وايلي-بلاكويل، الطبعة الثانية، 2010) ترى الباحثة البريطانية كيت ناش أن “علم الاجتماع السياسي المعاصر يهتم بالسياسة الثقافية (Cultural Politics)، أي بما يمكن تسميتها “سياسة السياسة”. وما تقصده الكاتبة بالسياسة الثقافية هو الكيفية التي بوساطتها تشكّل الثقافة، بما فيها آراء الناس ومواقفهم ومعتقداتهم بالإضافة إلى الفنون ووسائل الإعلام- المجتمع والرأي السياسي. ومن هذا المنظور، ما تعنيه الأحداث عند أولئك الذين يفسرون هذه الأحداث ويتصرفون على أساسها هو الأهم. وما يُعد سياسيّاً من حيث المحتوى والشكل يجب أولاً، كما تقول ناش، أن يخضع لعملية “تسييس”؛ أي أن يكون ظاهراً ومرتبطاً بالكيفية التي تُنظم بها العلاقات الاجتماعية، أو إمكانية تنظيمها. وعلى هذا الأساس، ما يجري “تسييسه” لا ينحصر ضمن الإطار المؤسساتي للحكومة، أو الدولة، أو الأحزاب السياسية، بل يتعدّاها إلى فضاءات اجتماعية أوسع نطاقًا وأكثر شمولاً. هذا المفهوم يطرح منظوراً جديداً لطريقة التعاطي مع الحدث بوسائط متحررة من القيود والضوابط، لنجد أمامنا مركَّباً يجمع السياسة الثقافية- وفقاً لما ورد في كتاب ناش- بالثقافة السياسية (Political Culture)؛ أي مجموعة القيم والمعايير السلوكية المتعلقة بالأفراد في علاقاتهم مع السلطة السياسية. ولأنها جزء من ثقافة المجتمع العامة، تتوزّع الثقافة السياسية إلى ثقافات فرعية يهيمن على إحداها مكوّنٌ ثقافي أو أيديولوجي بعينه مثل الدين، والطبقة، والعامل الاقتصادي، والتحصيل العلمي، وثقافة الشباب. وهذا تحديدًا ما أشار إليه ليناردو مورلينو في كتابه “العلم السياسي: منظور عولمي” الذي شارك تأليفه مع آخرين (دار نشر سيج، لندن، 2017) عندما يقول إن “الهوية الذاتية” هي من ترسم حدود الثقافة السياسية.

المأساة الفلسطينية سابقة على قيام الثورة الإسلامية في إيران بثلاثين عامًا

في هذا الإطار النظري العام، تقتضي الواقعية أن نقرأ “طوفان الأقصى” وتداعياته بصفته حدثًا في إطار الصراع العربي الإسرائيلي أفرز ثقافة سياسية بدأت ملامحها الأولى تتشكل على مدار عقدين من الزمن، واتضحت تناقضاتها بشكل جلي بعد 7 أكتوبر (2023). ومن أهم الملامح التي اكتستها هذه الثقافة أنها جعلت القضية الفلسطينية ورمزيتها مرتعًا للتشويه وإطلاق أحكام قيمية تقلل من مشروعيتها ومبرراتها القائمة على الحقّ الإنساني، وليس من صورتها الطوباوية المثالية فحسب. أي وبعبارة أخرى، تجردها من الحصانة التي لازمتها في الوجدان العربي فترة طويلة، ولأسبابٍ لا علاقة للقضية الفلسطينية بها من الناحية التاريخية.

بالعودة إلى مقولة مورلينو عن الهوية الذاتية التي ترسم حدود الثقافة السياسية، ليس صعباً تتبّع ما جرى تسطيره في وسائل الاتصال الاجتماعي المكتوبة، أو بثه حيّاً ومُسجَّلاً على نظيرتها المرئية والمسموعة للوقوف على ما يمكن تسميته النشاز السياسي بمعنى الخروج عن المألوف السائد تجاه قضيةٍ اتفقت قطاعات شعبية واسعة من شتى أنحاء المعمورة على وصفها بأنها واحدة من أشد قضايا المظلومية الإنسانية بشاعة لأكثر من سبعين عاماً. هذا لا يعني بالتأكيد أن هذا “النشاز” لم يكن موجوداً من قبل، لكنه كان محصوراً بمواقف أيديولوجية معروفة، ولم يبلغ الاتساع الذي بلغه بالتوازي مع مجريات “طوفان الأقصى”.

لم تعد فلسطين بوصلة الشارع العربي، مع استثناءات محدودة، ولأسباب أدعو المتخصصين في علم الاجتماع السياسي إلى البحث فيها

إذا كانت بعض وسائل الإعلام العربية قد تبنّت سياسة أدانت عملية طوفان الأقصى صراحة، وساوت بين الجلاد والضحية، فإن ما أطلقته وسائل الاتصال الاجتماعي من مواقف كان كفيلاً بإثارة حالة من الأسى على الأقل مشفوعة بالحيرة والاستغراب. إذ تجاوزت هذه المنصّات ما عناه مورلينو بالهوية الذاتية إلى ما يمكن وصفُه بتشظي الهوية وشرذمتها. ومن أكثر الأمثلة وضوحاً هي حلقات “الردح والقدح الطائفي” والمهاترات الشخصية على حساب الرأي والرأي الآخر. وللمفارقة أن المشاركين في هذه المناوشات هم من المؤثرين ضمن إطار الخطاب الديني نفسه الذي تنتمي إليه حركتا حماس والجهاد وغيرهما من فصائل المقاومة الإسلامية. وما هو أكثر غرابة من ذلك كله أن بعض المؤثّرين على وسائل التواصل راحو يكيلون الاتهامات إلى المقاومة الفلسطينية بتبعيتها إلى ’إيران الشيعية‘ حتى كادوا يخرجونها من “الفئة الصالحة”، متناسين أن المأساة الفلسطينية سابقة على قيام الثورة الإسلامية في إيران بثلاثين عامًا، بل أدخلوا نكبة الشعب الفلسطيني وويلات الاحتلال في متاهات نزاع يعود إلى أكثر من ألف عام. قد يتفهم المرء اندفاعة “الليبراليين” وبعض أنصار الديمقراطيات الغربية لتوجيه سهام النقد لكل من ينادي بأولوية القضية الفلسطينية وليس المقاومة التي تتبنى خطاباً دينيّاً فحسب، لكن أن تأتي الاتهامات من “الهوية الذاتية” نفسها، فهذا يستدعي أكثر من علامة استفهام.

أجل، وبمنتهى الصراحة، لم تعد فلسطين بوصلة الشارع العربي، مع استثناءات محدودة، ولأسباب أدعو المتخصصين في علم الاجتماع السياسي إلى البحث فيها. وإلى أن يتم ذلك، أخشى أن يأتينا يوم تمتلئ فيه شوارع المدن العربية بهتافات تردّد مع الشاعر السوري فيصل بليبل (1919- 1984) ابن مدينة الرقة الذي عُرف بكتاباته السياسية (وليس نزار قباني كما يشاع) تردّد قوله: “عـفوًا فيروزُ ومعـذرةً أجراسُ العَـوْدةِ لن تـُقـرَع”.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى