الهجرة والانتقال من مكان لآخر، ليس أمرًا طارئًا، أو جديدًا في التاريخ البشري، ولطالما كانت هدف الإنسان ومسعاه الذي لا يتوقف، بحثًا عن واقع أفضل، وحياة تلبي طموحه الذي لا يقف عند حدود، كما هي حق كفلته الشرائع السماوية، والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، بل وأمرًا في بعض الحالات، ( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ). للهجرة أسباب كثيرة، تنوعت بحسب المرحلة التاريخية التي شهدتها، أو عرفتها، فمن البحث عن الكلأ والنار، إلى الهرب من جحيم الحروب والثأر، مروراً بالفرار من الملاحقة والاعتقال، أو التعرض للأذى، لأسباب دينية أو سياسية، أو حتى للبحث عن فرص التحصيل العلمي، الذي يتحول فيما بعد، على الأغلب، إلى استقرار وإقامة دائمة، بحكم جاذبية المجتمع الجديد، وحالة الطرد في المجتمعات الأصل. باستقرار الدول والمجتمعات، وترسيم الحدود والسيادة، في العصر الحديث، أصبحت مسألة الهجرة أكثر صعوبة وتعقيدا، مع تزايد الفروق بين الشمال والجنوب، والغرب والشرق، وتباعد شقة الهوة الاقتصادية، وزيادة مستوى الفروقات الحضارية، ومن حيث الرفاهية وفرص العيش الكريم، وحتى الحرية الشخصية. بالطبع ذلك عما يمكن تسميته بالهجرة الخارجية، العابرة للحدود، في مقابل الهجرة الداخلية، والتي هي الانتقال من الريف إلى المدينة، أو من مدينة لأخرى، وذلك لأسباب تتعلق بالفوارق، على مستوى الخدمات، الصحية والتعليمية وفرص العمل …إلخ، أو بحكم طبيعة وظروف العمل نفسه، وكلها أسباب اجتماعية واقتصادية صرفة. في حالتنا السورية اليوم تطرح مسألة الهجرة بقوة وإلحاح، مع مشاهد الموت والغرق، التي تأتي من شواطئ بعض الدول، خصوصا إيطاليا، التي تتخذها عصابات الهجرة غير الشرعية ممرا ومنطلقا باتجاه دول الشمال الأوربي، الأرقى والأكثر إنسانية في التعامل مع المهاجرين وتوفير فرص محترمة، تليق بآدميتهم وكرامتهم الإنسانية، وهي مشاهد هجرة جماعية قل مثيلها في العصر الحديث، ربما تذكر بالفرار الجماعي للشعب الألباني باتجاه اليونان مع نهاية الحقبة الشيوعية، أو هجرة العرب المغاربة والأفارقة عموما، التي لا تتوقف يوما. الهجرة اليوم، تأتي بعد انقضاء سنتين ويزيد على صبر الشعب السوري وتحمله، في دول الجوار، ومخيمات الشتات، على أمل عودته سريعا إلى ربوع وطنه ودياره، دون بارقة أمل قريبة، وهي مسؤولية أخلاقية وإنسانية، كما هي سياسية، تتحمل دول العالم قاطبة المسؤولية عنها، نتيجة عدم منع أسبابها ودوافعها، المتمثلة بعدم إيجاد حل جذري لمعضلة بقاء العصابة المجرمة في دمشق، بل وغض النظر عن جرائمها التي تدفع الآلاف لخيار الموت في البحر غرقا، على خيار الموت المعمم الذي وصل أخيرا الى القتل بالسلاح الكيمياوي. ليست جديدة، على السوريين ظاهرة الهجرة، ومخاطر ركوب السفن والزوارق غير الآمنة، فقد عرفوها من قبل الثورة وتعرضوا لذات المخاطر، التي نشاهدها اليوم ولكن بأعداد أقل ودرجة أدنى، وكنت شخصيا قد التقيت ببعض من لم يتمكنوا من الوصول إلى هدفهم المنشود ورووا لي قصصا عن الرعب والخوف في عرض البحر، هي الموت بعينه، ومع ذلك عاودوا الكرة مرة تلو المرة إلى أن تمكنوا من الوصول، وكان ذلك في حينه، في الغالب، بحثا عن لقمة عيش تقيهم العوز الذي وصل إليه حالهم جراء سياسات الفساد المنظم والنهب المستمر والإفقار المتعمد لطبقات وفئات اجتماعية كثيرة. من هجرات السوريين غير المرئية، في ظل نظام العصابة، والتي لم يتم الحديث عنها، إلا بشكل خافت من بعض الأصوات الجريئة، كالهجرة في نهاية حقبة الثمانينات من القرن الماضي، باتجاه اليونان وقبرص، التي تحولت إلى ظاهرة أقلقت المجتمع اليوناني، على سبيل المثال، وعرضت هؤلاء لكل أنواع المخاطر، هذا عدا عن حلم السفر والهجرة الذي كان يدفع الآلاف إلى النوم على أبواب السفارات ليال بطولها ليتمكنوا من الدخول وتقديم أوراقهم الثبوتية، على أمل الحصول على تأشيرة دخول لتلك البلدان، وأيضا، موجات الرحيل والسفر والإقامة في دول أوربا الشرقية بعد سقوط الشيوعية، و…و…إلخ. تحول وطن السويين إلى حقيبة سفر، يشدون الرحال إلى ما شاء لهم الله من أرضه الواسعة، إلى أن ضاقت بهم على رحابتها وسعتها.!! اليوم تحمل الظاهرة أبعادا أكثر مأساوية، وألما، مع احتمالية عدم عودتهم إلى وطنهم لسنوات طويلة، في ظل الظروف الحالية، وما يمكن أن تحمله التطورات، خصوصا لما يمكن تسميته ب” الجيل الثاني”، ولا حتى بزيارة سريعة، بعد أن فقدوا كل مقومات حياتهم، كما كان في يوم ما حلم البعض ان يموت على تراب الوطن، أو أن يدفن في أرض وطنه، وحالت ظروف المنع من تحقيق تلك الأمنية المتواضعة. لا يجب أن ننسى أن هذه المشكلة بأبعادها اليوم، تتحمل المسؤولية عنها، كما في السابق، الدول نفسها التي تضيق ذرعا بالمهاجرين إليها، وتشهد نموا متصاعدا لحركات عنصرية معادية لهجرة الأجانب إليها، وتخشى من نتائجها على التركيبة السكانية لبلدانها، فهي التي تغض الطرف عن نظم الإجرام والفساد والطغيان، وهي كانت على الدوام داعما لها، وذلك دافع أساسي للهجرة وترك الأوطان. في مقابل ذلك، الدول العربية، ومن يفترض أنهم “أشقاء” لم يعملوا على استقدام وتشغيل هؤلاء، وتوفير الفرص لهم بما يحقق التنمية والازدهار، ويعود بالنفع على دولهم نفسها أولا. واستبدال ما لديها من عمالة أجنبية تحمل مخاطر كثيرة على مجتمعاتهم!! فتح باب الهجرة الشرعية من قبل بعض البلدان الأوربية، اليوم، له، إضافة للأسباب الأخلاقية والإنسانية، أسباب تتعلق بتلك البلدان، خصوصا عندما نتيقن من طبيعة من يمنحون فرصة ذلك، لجهة العمر والمؤهل وإمكانية الاندماج، وحتى الديانة.!!! حديث الهجرة وشجونها طويل، وأصبح حديث السوريين، وشغلهم الشاغل، والتي توقعهم في أحضان العصابات المختصة وابتزازهم، قبل أن يصلوا للأرض الجديدة، أو تبلعهم حيتان البحر، والسعيد منهم من أنقذ حيا أو ميتا، فعرف مصيره ونهايته، أو عرفها ذووه وأهله! إنها تغريبة …وحكاية وجع لا ينتهي، يقف العالم، رغم كل تعاطفه الذي يبديه معها، عاجزا عن فعل شيء تجاهها، طالما هو متواطؤ فيما يجري، أو صامت عنه. الهجرة ليست رحلة سفر فيها المتعة والفائدة، عددها الإمام الشافعي بقوله: سافر ففي الأسفار سبع فوائد…هي اليوم سبع مصائب …أو أكثر.!! هل سنرجع يوما….!!!
المصدر: الأيام
اصبح الشعب السوري ورقة يتاجر بها الجميع ، ومنها هجرة السورين من جحيم طاغية الشام ، ولكن هل اصبح العهر السياسي تلعالمي ليتاجر بمعانة شعب بدلا من ان يقف معه لإزالة اسباب هجرته.