“اللوفر” وماكرون

سلام الكواكبي

توجّه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في 7 مايو / أيار 2017، بخطابه الأول بعد انتخابه إلى الشعب الفرنسي من ساحة متحف اللوفر الخارجية، وتحديداً من أمام هرمه الزجاجي. وكان اختيار هذا الموقع ذا رمزية متعدّدة الأبعاد، فتاريخيّاً، يُعدّ هذا المتحف من أبرز المعالم الباريسية. وهو يضمّ بين جدرانه إرثاً فرنسيّاً وعالميّاً متعدّد الحقب وبعيداً في التاريخ الإنساني. وقد أراد ماكرون الذي قدّم نفسه في أثناء الحملة الانتخابية رئيساً يحمل رؤى مستقبلية، بأن يطمئن إلى أنه أيضاً متعلّقٌ بتاريخ البلاد وعراقتها وثورتها. كما أراد، من خلال اختيار هذا الموقع، أن يُشير إلى تمسكّه بالعمل على المحافظة على الوحدة الوطنية، فهذا المكان مليءٌ بالدلالات التاريخية المرتبطة بمسار التحوّلات السياسية التي شهدتها فرنسا.

الرئيس ماكرون، رغم فوزه الضئيل والذي ترجم خوف الفرنسيين من وصول مرشّحة اليمين المتطرف مارين لوبين، قدّم نفسه مرشحاً للتجديد وللحداثة. فالوقوف أمام الهرم الزجاجي المبني حديثاً، والذي صار، بعد افتتاحه سنة 1989، مدخلاً رئيسياً للمتحف، يُعتبر رمزاً للمزج بين القديم والجديد. وهو يعكس فكرة أنه يمكن للحداثة أن تتناغم مع التراث التاريخي للوصول إلى انبثاق شيء جديد ومميز، فالمكان إذاً، في نظر ماكرون وفريقه، لا يكتفي بأن يكون رمزاً من الماضي، ولكنه أيضاً رمزٌ يربط بين الماضي والمستقبل. ومن ثم، التقاليد السياسية والثقافية للدولة الفرنسية مستمرّة مع السعي إلى تجديد أداء مؤسّسات الدولة وإصلاحها. ومن خلال هذا الموقع الرمزي، أراد أيضاً أن يؤكد تمسّكه بمستقبل أوروبي مشترك، من خلال التوجّه نحو تعزيز الوحدة الأوروبية على اعتبار باريس برموزها التاريخية هي في قلب أوروبا، وأنها ستلعب دوراً أساسيّاً في تحقيق الوحدة الأوروبية. وأخيراً، ولثراء متحف اللوفر بلقىً أثرية وأعمال إبداعية من كل أصقاع العالم، أراد ماكرون تعزيز النظر إلى دور فرنسا في المشهد الدولي على أنها تتمسّك بموقعها القيادي على كل الأصعدة، خصوصاً منها الثقافي والسياسي في العالم.

نجح ماكرون في تحطيم موقع فرنسا التقليدي شبه الحيادي تجاه القضية الفلسطينية ليظهر انحيازاً صريحاً إلى اليمين المتطرّف الإسرائيلي

بعد هذا الخطاب الرنّان، والذي ذكرت تفسيراتٌ أنه أيضاً حمل بُعداً نفسيّاً يُشير إلى شخصيةٍ رئاسية معقّدة، خاض الرئيس ماكرون سنين مليئة بالأزمات وغنية بالإحباطات. ولقد أدّى ذلك إلى انخفاض في مستوى شعبيته فور ولوجه قصر الإليزيه. فقد تبنّى، وهو القادم من عالم المال والمصارف، عدة إجراءات اقتصادية، اعتبرها إصلاحات، بحجّة تحسين الأوضاع الاقتصادية، فأطلق ورشة إصلاح قانون العمل، كما بحث عن أنجع الطرق لتقليص الإنفاق الحكومي. ولقد جوبهت هذه الإجراءات برفضٍ عنيفٍ من النقابات بمختلف توجهاتها، كما أثّرت سلباً على الطبقتين الوسطى والفقيرة. وبعد سنة من تنصيبه رئيساً، شهدت فرنسا حركة احتجاجية ضخمة وفريدة تمثّلت بحركة السترات الصفراء. وكان رفع سعر الوقود قد أشعل فتيلة الانفجار، إلا أن الاحتجاجات الشعبية أشارت إلى عددٍ لا يُحصى من الإجراءات الاقتصادية المُجحفة بحق غالبية الشعب الفرنسي.

كما عرفت تصريحات للرئيس الفرنسي نوعاً من التعالي والنخبوية تجاه عامة الشعب. واشتُهر بقوله لشابٍ اعترض طريقه محتجّاً على البطالة، حين توجه إليه قائلاً “يكفي أن تعبر الطريق إلى الطرف الآخر لكي تجد عملاً”. ومن ثم، ظهر على أنه لا يشعر بآلام الآخرين، وهو بعيدٌ أشد البعد عن هموم المواطن الفرنسي. ولاستكمال الصورة، حلّت في فرنسا، كما في جميع الدول، جائحة كورونا وما رافقها، في بداياتها، من تخبّط سياسي وخدمي. ولقد جرى تحميل مسؤولية التأخير في المعالجة السريعة للوباء للحكومة الفرنسية وسياساتها الخاطئة. كما ولقد ترتب على تعرّض فرنسا للإغلاق التام في جميع القطاعات، وقوع أزمة اقتصادية خانقة، توجّه اللوم في سوء إدارتها إلى الرئيس ماكرون وفريقه الحكومي.

عرفت تصريحات للرئيس الفرنسي نوعاً من التعالي والنخبوية تجاه عامة الشعب

وأخيراً، أبرزت ولايتا الرئيس ماكرون في قصر الإليزيه الذي يُدير، عرفاً وتقليداً، السياسات الخارجية والدفاعية بمعزلٍ عن دور الحكومة، مظاهر فشل وخيبات متتالية، إن في العلاقة مع بقية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمتها ألمانيا، أو في علاقات باريس مع البيت الأبيض وتقلباته السياسية. كما عرفت علاقات فرنسا مع دول شمال أفريقيا تخبّطات وتناقضات لا تُعرف مآلاتها. ونجح ماكرون في تحطيم موقع فرنسا التقليدي شبه الحيادي تجاه القضية الفلسطينية ليظهر انحيازاً صريحاً إلى اليمين المتطرّف الإسرائيلي، على الرغم من رفض الأخير أي تقارب مع باريس.

بعد أن أرسلت مديرة متحف اللوفر، قبل أيام، رسالة إلى وزارة الثقافة، محذرة من الأوضاع التي وصل إليها المتحف، حيث تدهورت الخدمات وانخفض معدل الأمان، وصار من الضروري العمل على ترميمه وإصلاح أعطاله، زار ماكرون المتحف، وتوجه بخطاب إلى عامة الفرنسيين، ليُعلِن إصلاحاتٍ مرتقبةً تتمحوّر أساساً حول مسألة تغيير المدخل لتحسين الانسيابية.

ما حصل يمكن له أن يُلخّص، ومن أمام متحف اللوفر، تطوّر سيد الإليزيه، من صاحب نظرة مستقبلية تستند إلى عراقة الماضي إلى تقني يعمل على تحسين الدخول إلى المتحف.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى