كلما مرَّ بنا، نحن السوريين، حدث ما سيّئٌ يوجع بلادنا، لا نستحضر صورة بشار الأسد الذي، برعونته، حوَّل حياة السوريين إلى جحيم، بل غالباً ما نذهب إلى أفعال أبيه سيئة الذكر، ولعلَّ الأسوأ فيها وصيته بتولية ابنه الحكم لمتابعة إذلال الشعب السوري ونهبه، والأهم التغطية على الجرائم التي ارتكبت في ذلك العهد. أما سوءات الأب فكثيرة، لا يسمح المقام بذكرها أو المفاضلة فيما بينها، ولكن ستأتي المقالة على واحدة منها في سياق الحديث عن “إعلان جبهة السلام والحرية” الذي صدر في الجزيرة السورية في 28 الشهر الماضي (يوليو/ تموز).
اليوم وقد كثُرَتْ البيانات السورية/ السورية، والإعلانات والأحزاب والتيارات، وكثرت التحالفات والاتفاقات، بينما المأساة السورية سائرة بخطو بطيء وتعقيد أكثر! وكأنما هؤلاء الذين انخرطوا في الثورة السورية، أو تنطعوا لقيادتها، يجهلون ما رموا إليه من سعيهم أو أنهم أخطأوا الطريق، إذ رأوه ارتماءً في هذا الحضن أو ذاك من أحضان كثيرة فتحت لهم، فكانوا في سعيهم هذا والنظام الذي عملوا على إسقاطه سواء.
وإذا كانت بعض تلك المشاريع قد جاءت إضاءات، رغب إليها مثقفون وطنيون دونما أي خلفيات، لعلها تقود إلى توافقات بين السوريين، فإنَّ بعضها الآخر يخفي وراءه ما يخفيه، ومنها “إعلان جبهة السلام والحرية” في منطقة الجزيرة السورية الذي صدر عن أربع مجموعات معارضة: المجلس الوطني الكردي، تيار الغد (أحمد الجربا)، المنظمة الآثورية، المجلس العربي للجزيرة والفرات. .. ومجرد إعلان تحالف مناطقي يعني أنه بعيد عن الروح الوطنية السورية، وروح المواطنة التي يطمح إليها السوريون في إطار وحدة الأرض والشعب السورييْن. فهل يمكن لمنطقة الجزيرة أن تشكل كياناً مستقلاً بذاته؟! تحمل دعواتٌ كهذه، في عمقها، التقسيم، وإن على المدى البعيد. وعلى الرغم من أن البيان الصادر باسم “إعلان جبهة السلام والحرية” حاول أن يصوغ عباراته بدقة، إلا أن الروائح الانفصالية تفوح من مفرداته وأناقة عباراته التي تقول بمفهوم اللامركزية السياسية، فما الذي يعنيه هذا المفهوم؟ اللامركزية مفهوم في الإدارة، وهو مطلب ديمقراطي سوري يسمح لمجالس المدن والبلدات التصرّف بما يتوافق مع خصوصيتها التنموية في إطار الدولة الواحدة.. كذلك أكد البيان على “هوية الشعب الكردي”، وكأن سورية هويات تغاير في مفهومها الهويةً الوطنية السورية. أليس الكرد قوماً سوريين؟! نعم لهم لغتهم الخاصة، ولهم بعض عادات وتقاليد تغاير جزئياً عادات باقي السوريين وتقاليدهم، وهذا طبيعي، وهو موجود حتى ضمن المدن الكبرى الواحدة.
اللغة جزء من الهوية، وقد حُرِمَ الكُرْدُ وغيرهم من لغاتهم المكتوبة في المدارس حيث يوجدون، وهذا يمكن حله في إطار نظام تعليمي/ ثقافي يأخذ في حسابه تعدّد الطيف السوري، ويحل كما حلت مسألة اختلاف الأديان في المدرسة الواحدة.. وهو، في النتيجة، حالة إغناء للهوية السورية بكاملها، فبعض هذه اللغات في أصل تكوينها متقاربٌ، وثمة تاريخ مشترك بين اللغات العربية والسريانية/ الأشورية في الجزيرة، وكذلك الآرامية الأم، في ريف دمشق (معلولا). وجميعها عند جذر اللغات السامية.
أما بيت القصيد ففي المنطقة التي استقل بها الأميركان في خضم اختلاط الأحداث المأسوية، ليكون لهم نصيب في الكعكة السورية، فقد وجدوا في حزب الاتحاد الديمقراطي متكأ مناسباً لهم. ولا تخفى أصابع بعض العرب في تحريض زعماء العشائر كـ”تيار الغد” الذي يقوده الرئيس السابق لأئتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، أحمد الجربا، إضافة إلى بعض زعماء العشائر. ثمَّ إنَّ هذا الكيان “جبهة السلام والحرية” غير متكافئ في مكوناته وعناصره، ففي وقتٍ يشكل الكرد فيه طرفاً موحداً، يدرك تماماً ما يرمي إليه في الجزيرة السورية كلها، وقد سبقت ذلك مباحثات كردية كردية جاءت على حق تقرير المصير وغنى المنطقة بالثروات النفطية والزراعية. وفي المقابل، لا يوجد طرف متماسك يكافئ الجانب الكردي، على الرغم من أن صراعاً متوقعاً قد ينشأ بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والمجلس الوطني حول من يمثل الكرد. أما العرب فمجموعتان تمثلان أنفسهما، وقد رُكِّبتا لهذا الغرض، وواضحٌ أن الطرف الآثوري لا يمكن أن يكون ندّاً لأحد! وذلك كله بعيد عما يحتاجه السوريون، وهو صوت سوري موحد، يحمل خطاباً ديمقراطياً أمام العالم، ويستردّ، في الوقت نفسه، حقوق كل الأطراف التي تأثرت بحكم حزب البعث، فتصحيح أخطاء النظام السابق لا يعني تغييراً في الجغرافيا أو الديمغرافيا السورية، وإلا كان مدّعو الثورة وجهاً آخر للنظام.
وإذا كان هذا الإعلان بعربه وكرده، وبقية الموقعين عليه، يمهِّد للانقسام، فإن الاتفاقية التي وقعت بين حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، بشخص قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مظلوم عبدي، وشركة “ديلتا كريست إينرجي” الأميركية لاستثمار النفط السوري في الجزيرة السورية هي الأسوأ، ومن هنا بالذات سوأة حافظ الأسد الكبرى، وهي رعايته في وقت مبكر (1979) حزب العمال الكردستاني في سورية ولبنان، وتأمين مستلزماته المدنية والعسكرية، بغرض إزعاج تركيا أولاً، وللوقوف بوجه الأحزاب الكردية الأكثر اعتدالاً، وكذلك في وجه الشيوعيين الذين تبنوا حقوقاً ثقافية للأكراد السوريين. ولكن حافظ الأسد طرد رئيس الحزب، عبد الله أوجلان، حين هدّده الأتراك بدخول المنطقة، حيث تنطلق عناصر الحزب، وثمّة من قال إنهم دخلوا من نقطة غازي عنتاب، ما دفع الرئيس المصري في حينه، حسني مبارك، إلى التوسط وتوقيع بين الطرفين، وتوقيع اتفاقية أضنة التي قبلها الأسد كما وضعها الجانب التركي.
استمر بشار الأسد في التعاون مع الحزب (اللغم) ذاته، وزاد في تعاونه، بل اعتمد عليه لدى تفجر الأوضاع السورية، متخلياً له عن بعض المناطق السورية لحمايتها من فصائل المعارضة، معتبراً إياه حليفاً، وتعامل معه كما مع “داعش” (شراء النفط والقمح..). واليوم يأتي التهديد الأكبر بتقسيم سورية من جهة الجزيرة وذلك الحزب، بعيداً عن رأي السوريين، كل السوريين، فهل يفعل النظام شيئاً ويذهب إلى حل سلمي وفق قرار مجلس الأمن 2254، وينهي المأساة التي بدأها منذ نحو عشر سنوات، أم أنه يتمثل بيت المتنبي: من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام…؟
المصدر: العربي الجديد