الإسلاميون و الديمقراطية… مختبر سورية

المهدي مبروك

سيكون من المجحف أن نطلق أحكاماً مطلقةً على حصيلة تجارب الإسلاميين مع الديمقراطية، لأسباب عديدة تدور حول اختلاف السياقات المحلّية وطبيعة القوى الخارجية، التي ترافق (أو تراقب) التجارب تلك، فضلاً عن موقع الإسلاميين من السلطة، سواء كانوا في الحكم أو في المعارضة. هذه العوامل المركّبة والمعقّدة والمتشابكة تلجم الباحث الموضوعي والحصيف عن التسرّع في إطلاق أحكامه المطلقة والجزافية. كان من الممكن أن نتّكئ على الكليشيهات العديدة التي يطلقها خصومهم من العقائديين تحديداً، الذين يذهبون إلى نفي أي صلة للإسلاميين بالديمقراطية، بل يسارعون إلى عدّهم من ألدّ أعداء الديمقراطية جوهراً. الفكر المتصلّب الذي لا يترك أي مجال للتنسيّب أو التفكيك ينتهي إلى أحكامٍ معيارية أبعد ما تكون من التحليل الموضوعي.
نقرأ الجدل المحتدم بين كبار المختصّين في الإسلاميات التطبيقية (إسلام الحركات والمذاهب والطوائف)، المختلف منهجاً وأدواتٍ عن دراسات إسلام العقيدة، فنقف على جدل بين أطروحات مختلفة لا تذهب إلى إطلاق الأحكام، ولكنّها تحرص على فهم مختلف الديناميات التاريخية التي مرّت بها مختلف الجماعات الإسلامية، وتحديداً التي تقدّم نفسها معنية بالحكم، أي الإسلام السياسي بالمعنى العام. وفي كلّ مرّة، حين تتعثّر تجربة حكم الإسلاميين في بلد، يسارع العقائديون إلى القول بنهاية الإسلام السياسي (في العالم أجمع)، ولكن تسفّه المجريات اللاحقة هذه النبوءات، التي ليست من العلم في شيء. نتذكّر تماماً الهزيمة المدوّية للإسلاميين في المغرب الأقصى منذ سنوات، التي أطلقت حملات نعي لدى العديد من المثقّفين، ولكن ها هم يعودون مجدّداً. حدث الأمر ذاته في تجارب أخرى عديدة، سواء في تركيا أو بلدان أخرى في آسيا، وحتى في أفريقيا. التجارب الديمقراطية (على هشاشتها) في هذه المجتمعات، بيّنت أن الإسلاميين يحكمون، ولكنّهم ينحنون لإرادة الناس التي عبّرت عنها صناديق الاقتراع، على خلاف غيرهم الذين انقبلوا حين فاز الإسلاميون. حدث ذلك في الجزائر وفلسطين وتركيا… إلخ.
قد لا تكون هذه التجارب برهاناً على سلامة تلك الديمقراطيات، ولكنّها في الحالات كلّها تؤكّد أنها تجارب “دمقرطة”، لها الحدّ الأدنى الديمقراطي المطلوب: التعدّدية، واحترام صندوق الاقتراع، والقبول بالتداول السلمي للسلطة، وفكرة التمثيلية… إلخ. لم تولد الديمقراطية كاملة، حتى في المجتمعات الأكثر عراقة في الديمقراطية، علينا ألا ننسى أن بعض المجتمعات الغربية الديمقراطية، لم تمنح حقّ الاقتراع لبعض الفئات من مواطنيها إلا في الستينيّات من القرن الماضي، وأنها ظلّت تمارس تمييزاً قائماً على الإثنية أو الجندر أو الطبقة. حدث ذلك في أكثر من بلد، وتواصل إلى بداية سبعينيّات القرن الماضي، علاوة على كثير من نزعات الهيمنة والاستعمار، وانتهاك حقوق الإنسان، الذي مارسته هذه البلدان في حقّ شعوب أخرى. تقدّم فرنسا المثال الساطع لهذه السكيزوفرينيا (الفصام) الديمقراطية، فحين كانت تستعرض إعلانها حقوق الإنسان كانت مدافع جيشوها تدك جماجم شعوب في أكثر من قارّة. والأكيد أن الديمقراطية لا تولد دفعة واحدة، فلها تاريخ في كثير من الأحيان ملتوٍ ومرتبك، ولا يخلو من تردّد وتلعثم وسقطات.

بيّنت تجارب ديمقراطية أن الإسلاميين يحكمون، ولكنّهم ينحنون لإرادة الناس التي عبّرت عنها صناديق الاقتراع

على هذا النحو، لا يمكن للإسلاميين أن يكونوا ديمقراطيين دفعة واحدة، والمتأمّل في أطروحاتهم السياسية خلال أربعينيات القرن الماضي، ويقارنها مع أطروحاتهم الراهنة، يدرك حجم الرحلة الشاقّة والطويلة التي قطعوها. إنها خطوات حاسمة، ولكنّها تظلّ مهدّدة دوماً بالنكوص لاعتبارات عديدة، لعلها تلك العائدة إلى غياب “تجذير” للديمقراطية في أطروحات عديد من حركات الإسلام السياسي، باستثناء بعضها، وإن كان ذلك غير كافٍ (تونس، المغرب، تركيا…)، وهي تجذيرات تحتاج إلى مزيد من التعميق، لأنها أشبه بالتهجين الفكري الممسوخ. أمّا السبب الثاني فإنه عائد إلى هجمات خصومهم الذين لا يصدّقون مطلقاً أن الإسلاميين يمكن أن يكونوا يوماً ديمقراطيين، مردّدين في وجوههم: “لو خرجتم من جلودكم لما عرفناكم”. يلعب خصوم الإسلاميين دوراً مهماً في مرافقة هؤلاء خلال عبورهم الطريق الطويل نحو الديمقراطية. يغنم مناصرو الديمقراطية من خصومهم الإسلاميين كثيراً حين يقترب هؤلاء من الديمقراطية، ويشرعون تدريجياً في التعرّف إليها، ومصالحة مفرداتها وممارساتها، حتى الدنيا منها.
ستكون التجربة السورية مخبراً إضافياً لامتحان الإسلاميين مع الديمقراطية، لذلك فإنها ستكون محطّ أنظار العديد من المحلّلين والخبراء. المؤشّرات كلّها لا تمنحنا الاطمئنان الكافي، لأن تكون التجربة حضانة للديمقراطية، فأحمد الشرع لم ينطق إلى حدّ الآن لفظ “الديمقراطية”، مفضّلاً استعمال مصطلح “الحرّية”، وفي ذلك حيلة، فالناس متعطّشون حالياً إلى الحرّية، خصوصاً في ظلّ القمع الذي عاشوه عقوداً. الحرّية تبدو لبعضهم حلماً، وشعراً قد نجد له جذوراً في الفكر الإسلامي، كما صاغته على الأقل أدبيات الإصلاح خلال أواخر القرن التاسع عشر. لا ندري إن مرّت الجماعة على هذه الأطروحات أم إنها ما زالت تنكرها، ولكن سيكون من الصعب تصوّر هذه القفزة الأسطورية كلّها من أمكنة القاعدة، ومَن جاورها، إلى أمكنة الديمقراطية وما جاورها. خارج المراجعات الفكرية العميقة سيبدو الذهاب إلى الديمقراطية “إكراهاً”، ومن استكره على شيء فلا ذنب عليه. آنذاك، كلّ شيء وارد، بما في ذلك أبشع أشكال الاستبداد.
ولكن ماذا عن خصومهم؟ هل هم سادة الديمقراطية وفرسانها؟… لا أعتقد شخصياً. سؤال الديمقراطية لا يعني الإسلاميين فقط، بل كلّ تلك التيّارات السياسية التي تجاورهم: اليسار الذي ما زال يحتفل بمئوية لينين، هو الآخر لا يقلّ عداءً للديمقراطية عن الإسلاميين، معتبرين أنّها كذبة بورجوازية. وما زال القوميون يعتبرونها خدعة استعمارية. إنها أشكال متعدّدة من “الكفر بالديمقراطية”، ولكن بصيغة لا دينية. كلّهم في الهمّ سواء.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى