بادرت الدولتان الفرنسية والجزائرية إلى معالجة ما تسميانه “ملف الذاكرة”، فعين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المؤرّخ المتخصص بشمال أفريقيا، بنجامين ستورا، وعين الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مستشاره المكلف بالأرشيف الوطني والذاكرة الوطنية، عبد المجيد شيخي، بهدف العمل معاً لإنجاز مصالحة بين الروايتين الفرنسية والجزائرية، وإنتاج رواية مشتركة تنهي ما يسمونه صراع الذاكرة، وتعالج جراحها التي لا تجف. على هذا الطريق الطويل، توجد مطبات ونقاط ألم ومنزلقات كثيرة، وسيواجه هذا الطريق مقاومات عديدة في فرنسا، كما في الجزائر، لكنه مسارٌ يفضي، إذا نجح، إلى صياغةٍ موحدةٍ عن التاريخ “المشترك”، ويفرض تسوياتٍ واعترافات وتعويضات .. إلخ. وفي كل حال، فإنه مسار يتجه، مهما تعثر أو تقطع، إلى محطةٍ حميدة في صالح علاقة البلدين، عوضاً عن صراع الروايات اللانهائي، والذي لا يفضي سوى إلى تعزيز المشاعر السلبية والعداوات ومزيد من الصراعات غير المجدية.
سبق أن دخلت فرنسا مع ألمانيا في مسارٍ مشابهٍ محاولتين وضع نهاية لتاريخ طويل من العداوة بين البلدين، تمتد من الحرب الفرنسية البروسية (1870)، وتمرّ عبر الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، إلى حد النظر إلى فرنسا وألمانيا كأنهما “أعداء بالوراثة”. بعد جهود مشتركة كبيرة، يقال إنها تعود إلى عشرينيات القرن العشرين، حين بدأ المدرّسون الألمان والفرنسيون بنقد التصورات ذات النزعة العسكرية والقومية لدروس التاريخ، توصل البلدان في 2006 إلى نشر أول كتاب تاريخ مشترك لتدريس المرحلة الثانوية في كلا البلدين، وهو إنجاز لا سابق له في العالم، ويجسّد أحد أهم تطورات العلاقات الدولية الحديثة، أي بروز فرنسا وألمانيا بوصفهما محور أوروبا الجديدة. لفتت التجربة أنظار مثقفين خارج أوروبا، وبشكل خاص في دول شرق آسيا، رأوا أنها نموذج ممكن لمعالجة ماضيهم المليء بالعداوات.
قد تلهمنا هذه التجارب للتفكير على نطاق آخر، في معالجة تعدد الروايات الشعبية في المجتمع السوري لتاريخ واحد. من الملحوظ أننا في سورية لا نزال نعيش في مجتمعات (communities) مغلقة إلى حد كبير بعضها على بعض، ولم تنجح تجربة الدولة الوطنية الحديثة المتعثرة في تعزيز تاريخ مجتمعي مشترك يحترم الجميع ويمكن الركون إليه. ولا يخفى على المراقب أنه بعدما تعثرت الثورة السورية وتحطمت، تغلبت في المجتمع السوري العداوات الداخلية على العداوات مع الخارج، ووجدت الأطراف الداخلية، كل في روايته الخاصة، منبعاً للتشكيك الدائم بالآخرين وانعدام الثقة بهم، ولتعزيز العدائية ضد الأطراف الأخرى. تحوّلت الروايات الذاتية إلى وسائل للتلاعب السياسي والحشد الأعمى على كل جبهات الصراع، وعلى الضد من مصلحة جميع المحشودين.
الروايات التي تتداولها الجماعات السورية، والتي تتعدد بتعدّد الجماعات، وهي في أغلبها روايات شفهية أو مكتوبة بمنطق شفهي، تشكل منبعاً لكراهيات كامنة أو مستورة تسمم الحياة المشتركة في المجتمع السوري، وتتحوّل في لحظة الأزمات الاجتماعية إلى مصدر شحن لا ينضب للعداوات. في هذه الروايات اعتداء، بدرجات مختلفة، على التاريخ “الحقيقي”، بقدر ما يمكن معرفة التاريخ الحقيقي باستقلال عن الذاتيات والانطباعات والتجزيء والتخييل وأعمال الذهن الشعبي المشوِّهة (بكسر الواو المشدّدة). في كل رواية، تبدو الجماعة صاحبة الرواية منزهة عن الخطأ أو مغبونة الحقوق أو مستحقة للسيادة .. إلخ، فيما تبدو الجماعات الأخرى ظالمة أو متوحشة أو عميلة .. إلخ.
يمكن في سورية تمييز نوعين من الروايات بحسب طبيعة الجماعات، هناك رواياتٌ قومية أو إثنية، تعمل على صياغة تاريخٍ يبالغ في الحقوق والمظلوميات، ويشكل أساساً لسياسات قومية شوفينية (لا ترى حقوق الآخرين). وهناك روايات دينية أو مذهبية تعمل على الرفع من شأن الجماعة الدينية، وتعزيز شعورها الذاتي ولحمتها عبر صياغة تاريخ من مظلوميات وملاحم وأحقيات. تنطلق هذه الروايات كلها من تاريخ فعلي، ولكنها تحلق بعيداً عنه وفق نظرة ذاتية يغذّيها الخوف والطموح معاً.
الروايات الدينية تحتية أو مضمرة، على خلاف الروايات القومية، وإن كانت لا تقل عدائية وتقليلاً من اعتبار الآخرين أو حتى نفياً لهم. لكن ما يزيد من تعقيد موضوع روايات الجماعات الدينية أنها تقع خارج نطاق أي رصانة عقلية أو رقابة وجدانية، بسبب دخول البعد الديني أو الميتافيزيقي عليها. بالقدر نفسه الذي يمكن للتصور الديني أن يكون سنداً للقيم الإنسانية، يمكن أن يشكل ممراً سالكاً لهدم كل قيمة إنسانية، حين يسحب الغطاء “الإنساني” عن جماعة أو عن أفراد محدّدين.
على هذا، يمكن أن يصبح الآخرون مرشحين للإبادة بضمير مرتاح، لأنهم ملعونون من الله بكل بساطة. أو يمكن أن يصبح الآخرون مجرّد أشكال بشرية لقردة أو خنازير .. إلخ. هذا النمط من الروايات يصعب استئصاله، لأنه يجد جذوره في منطقةٍ لا تطاولها المحاججة العقلية والمنطقية، غير أن كتابة تاريخ مشترك بمعايير عقلانية وموضوعية مسؤولة، يسرد بالقدر الممكن من العلمية والتوثيق علاقات الجماعات وصراعاتها، ليكون الأساس في التعليم المدرسي والأكاديمي، تشكل أحد الخيوط التي يُحاك منها نسيج وطني متماسك.
الهروب من هذه المهمة، والإصرار على تعميم تاريخٍ لا يتحسّس تاريخ المهزومين أو الخارجين عن الخط العام، سوف يقود إلى إنتاج تواريخ مضادّة، بل ومتمادية في الضدية. في حين أن إنجاز هذه المهمة يمكن أن يشكل الأساس لاضمحلال الروايات الذاتية للتاريخ المشترك، ما يقود إلى اضمحلال منابع الكراهيات وانعدام الثقة المتبادل، ولا سيما إذا ترافق هذا مع المضي في تعزيز نظام سياسي ديمقراطي تشاركي غير تمييزي.
ندرك أن هذه مهمة شاقة وطويلة النفس، وقد لا يكون لهذا أولوية اليوم، ذلك أن مثل هذه المهمة تنجز في ظل استقرار سياسي فعلي قادر أن يحتضن عمليات الترميم المتعددة الأبعاد. أما اليوم، في ظل التنافر السياسي الحدّي، نجد أن كتابة التاريخ تذهب، على العكس، إلى مزيد من الاستقطاب والذاتية ونفي الآخرين، كما نشهد في المناهج التعليمية المتعدّدة المعتمدة في سورية الممزقة. لكن لا يغير هذا من حقيقة أن المهمة الجريئة لإنتاج تاريخ مشترك يعالج صراع الخيالات والذواكر لدى الجماعات السورية، هي مهمةٌ لا يمكن تخطّيها، على طريق ترميم النسيج الوطني، إذا كان لهذا النسيج أن يرمّم.
المصدر: العربي الجديد