ماذا في أقبية سجن صيدنايا؟

حسام جزماتي

انتشرت، في أثناء تحرير هذا المعتقل المريع، شائعات كثيرة منبعها رغبة عشرات آلاف عائلات المفقودين في العثور على ذويهم بعد سنوات ماضية من الغياب. وكان من أبرزها وجود أقبية خفية وطوابق تحت الأرض في السجن. ورغم أن العارفين سارعوا إلى نفي ذلك إلا أن الآمال ظلت تراود نفوس كثيرين فبدؤوا بالحفر. وحين لم يسفر عن شيء جاءت لجان مختصة بخبرات تقنية أثبتت أن ما تم الوصول إليه هو كامل السجن، وأن الذين لم يُعثر عليهم من نزلائه باتوا في حكم الشهداء.

لكن قصة السوريين مع «أقبية صيدنايا» أقدم من ذلك. إذ يُنسب إليها، حقيقة أو مجازاً، عمل مخابراتي متقن لصناعة الجهاديين. وقد شاع هذا الافتراض إلى درجة أنه صار يعدّ من البدهيات التي يُغني ذيوعها عن تقديم أدلة، جديرة بهذا الوصف، تثبتها.

وقد استندت هذه الفرضية إلى أخرى أعمق وأشمل؛ تقول إن المخابرات السورية، دون تحديد جهاز بعينه، لاعبة بارعة في ملف الجهاديين، منذ أن اخترقتهم في العراق على الأقل. عندما كانت البلاد منطلقاً حراً لمواطنيها الراغبين في الجهاد أو المقاومة هناك، وممراً لسواهم من المتطوعين.

والحال أن انهيار بنيان نظام الأسد وخراب بيته، في مسلخه البشري صيدنايا وفي كافة إدارات أجهزته الأمنية وفروعها في المحافظات، فرصة مواتية لاختبار هاتين النظريتين المتداخلتين، أو بالأحرى مناسبة لدحضهما.

فأولاً تبين أنه ليس في هذا السجن العتيد أقبية سوى المنفردات التي يعرفها من قادهم حظهم العاثر إليه، فضمّتهم إثر الاستقبال وقبل توزيعهم على المهاجع، أو نزلوا إليها من مهاجعهم عقوبة على مخالفة بعض الأنظمة الجائرة المفروضة من قبل الإدارة.

ومن المهم ذكره هنا أن مديري السجن كانوا مشغولين بالمحافظة على انضباطه وسيره اليومي الذي كان رتيباً إلى حد كبير في سنوات ما قبل الثورة، وهي المرحلة التي يُفترض أنها شهدت «صناعة التطرف» فيه. فهؤلاء المديرون ضباط في جهاز الشرطة العسكرية لا في المخابرات، ليست لهم مهمة سياسية أو أمنية تتجاوز الحفاظ على من لديهم من «عهدة» بشرية يستلمونها بإيصالات ويسلمونها بأخرى. وبين هذا وذاك يحرصون على بقائها هادئة من دون محاولات للهروب أو التمرد، وعلى حصولها على التغذية والتطبيب في حدود الإبقاء عليها حية لا تسعى.

ومن صلاحيات مدير السجن فرز المعتقلين، أو الموقوفين باللغة الرسمية المعتمدة، على الأجنحة والمهاجع. وقد اختار بعض المديرين، أو معظمهم، فرز أبناء «الدعوى» أو القضية الواحدة معاً، لأن ذلك أدعى إلى انسجامهم فلا تحدث بينهم صدامات ربما تكون مميتة في حال وجود متشددين إسلاميين، مثلاً، مع سجناء اعتادوا إطلاق الشتائم والكفريات. وقد قرر مديرون آخرون دمج القضايا المختلفة، لا سيما حين أرادوا توزيع المتهمين بالتخابر والتجسس والعمالة على المهاجع كلها، ليصير للمدير مخبر منهم في أي بقعة من أرجاء مملكته الكئيبة.

وعلى كل حال، وبما أنه ليس بالإمكان بناء السجن من منفردات فقط، كان لا بد للسجناء من الاختلاط معاً. وبما أن معظم التهم في المرحلة المذكورة، انطلاقاً من أحداث 11 أيلول 2001، مروراً بالغزو الأميركي للعراق في 2003 والذروة التي تلته حتى الاستعصاء الشهير في 2008، كانت سلفية جهادية؛ فمن البدهي أن يتلاقى الجهاديون وأن يتداولوا الأفكار، وأن يكون بينهم من هو أكبر سناً أو أكثر علماً أو أنصع حجة، فيتولى تدريس من هم أقل بالاستناد إلى محفوظاته أو إلى ما يوجد من الكتب. دون أن يكون في ذلك مخطط خفي من نوع ما، يُطلب الآن من المقتنعين به أن يُبرزوا أدلة على وجوده من ورقيات السجن التي باتت متاحة.

وقد عرف السوريون من مذكرات المعتقلين الإسلاميين السابقين في سجن تدمر أنهم كانوا يمضون الوقت الرهيب بأن يدرّس كل منهم مَن حوله ما يتقنه من علوم؛ بدءاً من حفظ القرآن والعلوم الشرعية إلى الهندسة والطب والفيزياء… إلخ. ولم يقل أحد إن من مخططات النظام الخبيث تخريج عدد من حفاظ القرآن أو المطلعين على العلوم!

كما أن سجن صيدنايا نفسه ضم، منذ تأسيسه في عام 1987 وحتى التسعينات، كتلة وازنة من سجناء حزب العمل الشيوعي، شغلوا عدداً من أجنحته ونظّموا مكتبة كبيرة قرؤوا فيها أعمالاً أدبية وسياسية وفلسفية، ونشطوا في تعلم اللغات. ولم يقل أحد إن المخابرات السورية أعدّت جيلاً من المثقفين!

أما فرضية أن هذه الأجهزة تغلغلت في الأوساط الجهادية العراقية فيحتاج دحضها كلياً إلى اطلاع أوسع على ملفات الجهاديين لديها، وهو ما لم يحدث بعد نتيجة فوضى الوثائق الآن. لكن ما تسرب يشير بوضوح إلى أن هذه الفرضية خرافة روّجها الأمن السوري عن نفسه أملاً في الاتجار بهذه المعلومات المزعومة لدى الدول الغربية مقابل أثمان سياسية، وإرهاباً معتاداً منه للسوريين بأنه كليّ المعرفة، وكليّ القدرة بالتالي.

ولعله من الأمثلة الفاضحة ما استعرضته منصة «درج» مؤخراً من ملف أبي محمد الجولاني في فرع فلسطين، المركزي، والذي يبيّن أن شعبة المخابرات، العسكرية، لم تستطع تحديد هوية قائد «جبهة النصرة» إلا بعد أن ظهر بوجهه على الإعلام في عام 2016. وأنها كانت تتخبط، قبل ذلك، بين الاحتمالات المعروفة المطروحة على الإنترنت. والأهم هنا أنها لم تحاول الاستعانة بأحد عملائها الكثيرين المفترضين في ساحة الجهاد العراقي، كما لم يسعفها مصدر تسرّب إلى «النصرة» من العراق أو من سجن صيدنايا. وقد كانت هاتان البيئتان العمود الفقري للتنظيم في سنوات تأسيسه!

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى