“بائعة الكبريت” في غزّة

معن البياري

لم يُعطِ الدنماركي هانز كريستيان أندرسن اسماً للطفلة الفقيرة، في قصّته “بائعة الكبريت الصغيرة”، والتي ماتت من البرد، في ليلة رأس السنة. ولم يُعطِ تعييناً لمكان القصّة في أي مدينةٍ أو قريةٍ أو بلدة، ولا أوْحى بأيِّ إشارةٍ إلى أيِّ زمانٍ صارت فيه. أراد للقصّة التي نشرها (أقلّ من ثلاث صفحات) في العام 1845 أن تعبُر كل الأزمنة والأمكنة وإلى كل الشعوب والأمم. ولذلك صارت شهيرةً، ونُقلت إلى كل اللغات، وشوهدت في رسومٍ متحرّكةٍ وتمثيليّاتٍ تلفزيونيةٍ عديدة. أما الرضيعة، ذات الأسابيع الثلاثة، سيلا محمود، التي ماتت من البرد، فإلى اسمِها المعروف هذا، قضت في مخيّم النازحين في المواصي في خانيونس في قطاع غزّة، قبل أربعة أيام من رأس السنة الجديدة. لم يكن لدى أمّها ملابسُ إضافيةٌ لتدفئتها، فظلّت تدفّئها باحتضانها. وليست سيلا وحدَها من أماتها البرد في غزّة، فخمسةُ رضّعٍ آخرون أوقف هذا حيواتهم، منهم جمعة البطران، في يومه العشرين، توأم شقيقه الذي قضى قبله، في مخيّمٍ في دير البلح التي أوى إليها أهلوهما من القصف في بيت لاهيا، ثم لم ينج التوأمان من الموت برداً. وممّا صِرنا نعرف، ليس فقط أطفال غزّة يتجمّدون حتى الموت بسبب البرد ونقص المأوى، بتعبير مفوّض عام “أونروا”، فيليب لازاريني، بل أيضاً غير الأطفال، فقد عثروا على جثّة الطبيب في المستشفى الأوروبي في خانيونس، أحمد الزهارنة، ميّتاً بسبب البرد في خيمته في المواصي.
فقدت طفلة هانز أندرسن، ذات الشعر الأشقر الطويل، حذاءَها القديم الذي استعارته من والدتها، وهي تبيع أعواد الكبريت وسط الثلج والبرد القارس في الشارع الذي لم يكن أحدٌ فيه يحزَن عليها ويشتري منها، أحسَّت بالتعب، وهي الجائعة والخائفة، فجلست بين منزليْن، تنظرُ من النوافذ إلى ناسهما يحتفلون بعيد رأس السنة، وتخشى العودة إلى المنزل بلا نقود فيضربها والدُها، فأشعلت عود كبريتٍ، بعد أن حكّته بحائط، ثم بدأت أحلامٌ تأتي إليها، وأشعلت ثانياً ثم ثالثاً وكلّ عيدانها، وكانت الأحلام تفد إلى عيونها، عن أكلٍ كثيرٍ ومدفأةٍ وديكٍ روميٍّ وشجرة الميلاد، وأن جدّتها المتوفّاة جاءت إليها تحنو عليها، وأحاطتها بذراعيْها، وكانت قد قالت لها “متى سقطت نجمةٌ من السماء صعَدت روحٌ إلى الرب”. ثم طارت اثنتاهما إلى السماء، فلم تعُد الطفلة تشعر بجوعٍ أو بغيره، لأنها تجمّدت من شدّة البرد حتى الموت، وعثر الناس على جثّتها في النهار التالي.
تتذكّر الناشطة التربوية الإسرائيلية، تمارا فارتا زهافي، في مقالةٍ لها في “هآرتس”، القصّة الشهيرة، في ما يشبه الصرخة منها، وتكتب إن بائعة الكبريت الصغيرة همست في أذنها “هناك عشرات آلاف الأطفال في غزّة مثلي”. وإنها في كل مرّة كانت تقرأ القصة، منذ طفولتها، كانت تتمنّى نهايةً أخرى، لأنها لم تتحمّل حقيقة موت الطفلة برداً، وكانت تصرُخُ في سرّها في اللامبالين ممن يتناولون عشاء راس السنة، وتُخاطبهم بأنهم قُساة، وتُطالبهم بأن يُنقذوا الطفلة… وليس لواحدٍ منّا إلا أن يُعجبُه الحسُّ الإنسانيُّ الرفيع لدى هذه المرأة الساخطة على فظائع جيش دولتها تجاه الغزّيين. وإلا أن يغبط بائعة الكبريت، التي أماتها البرد قبل 180 عاماً، وقد خلّدتها مخيّلة قاصٍّ (وشاعر) تخيّلتْها، فلا كان كبريتٌ ولا كانت طفلةٌ تبيع عيدانَه في ليلةٍ انتصفت بين عامٍ رحل وآخر قادم. أما سيلا محمود وجمعة البطران وغيرُهما من رضّعٍ وأطفالٍ أوقف البردُ في غزّة حيواتهم، فلا يحتاجون قرائح أدباء وقصّاصين، فموتُهم برداً، في خيامٍ مهترئةٍ وسط الجوع والمطر، معلومٌ واقعاً، لم تأت به أجنحة خيالٍ أو مخيّلات.
كأن مقال الإسرائيلية يطرُق جدران الكاتب العربي، ويُخبرُه بأن ثمّة قصّة موتٍ معلن (بالاستئذان من ماركيز) في غزّة، موتٍ له وجوهٌ عديدة، لا تحتاج إلا إلى من يصونُها من النسيان، فآلاف الحكايات  في متواليات الإبادة الشنيعة هناك تنتظر (أو لا تنتظر؟) من يكتُبها، فبائعة الكبريت (الدنماركية؟) لا تهمس في الكتّاب العرب، وإنما تستفزّهم، بأن في غزّة من يموتون من البرد، ولكن ليس مثلها، كما أخطأت صاحبة المقال في “هآرتس”.

 

المصدر: العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى