بمجرد سقوط النظام واستقرار القادمين الجدد إلى السلطة في قصر الشعب، علت أصوات كثيرة داخل سوريا وخارجها تطالب بخارطة طريق تحدد مسار المرحلة الانتقالية، مدتها، وماهية نهايتها. الأصوات السابقة لم تقتصر على من هم خارج دائرة الحكم الحالي، بل ترددت على لسان الكثير من مسؤولي الإدارة الجديدة بمن فيهم قائدها أحمد الشرع، حيث ضجت مقابلاته الصحفية الخارجية بمفردات انتقالية عديدة من قبيل تصريف الأعمال، لجان قانونية، دستور، حوارات وطنية ..إلخ.
تزامن ذلك مع إعلان الإدارة الجديدة نيتها عقد مؤتمر وطني، لم يحدد تاريخه بعد، تدعو إليه ما يزيد عن 1200 شخصية سورية، مؤتمر أثار الكثير من الجدل والشائعات عن طبيعته، أهدافه، خصائص المشاركين به ومخرجاته المنتظرة. ويعزى هذا الجدل ربما إلى قناعة سائدة بأن المؤتمر الذي سيعقد على يومين قد يمثل المظلة الذي تنتظم تحته الحوارات الوطنية في الأشهر القادمة.
لا يروم هذا المقال الخوض في المؤتمر القادم، ويرنو نحو توسيع العدسة لتقارب إشكالية “الحوارات الوطنية” في المراحل الانتقالية بالوقوف على المفاهيم الأكاديمية ضمن دراسات الانتقال والخلاصات الإجرائية المستنبطة من التجارب العديدة.
عملية الحوار الوطني وتوتراتها المتأصلة
تعرف الحوارات الوطنية أكاديميا أنها ميكانزمات تفاوضية تهدف إلى توسيع المشاركة في التحولات السياسية إلى ما هو أبعد من النخب السياسية والعسكرية الحاكمة، ويتم اللجوء إليها لمعالجة علة في “الشرعية” السياسية و”المشروعية القانونية” الناجمة عن الوصول إلى السلطة خارج النواظم الدستورية والآليات القانونية المتبعة، كما يحصل بعد الثورات التي ينهار فيها النظام بشكل كامل، والانقلابات العسكرية، أو الغزو الخارجي.
تعرف الحوارات الوطنية أكاديميا أنها ميكانزمات تفاوضية تهدف إلى توسيع المشاركة في التحولات السياسية إلى ما هو أبعد من النخب السياسية والعسكرية الحاكمة
برزت “الحوارات الوطنية” كعملية إجرائية يُنظر لها في دراسات الانتقال في تسعينات القرن الماضي مع موجة التحول الديمقراطي التي اجتاحت دولا عدة في غرب القارة السمراء مثل بنين وتوغو والنيجر ومالي وغيرها، ودخلت تجلياتها إلى العالم العربي، بشكل جدي، مع تجربة العراق بعد الغزو الأميركي، واليمن بعد المبادرة الخليجية.
توصف الحوارات الوطنية بأنها آليات غير ديمقراطية لكنها فعالة في تعزيز الديمقراطية كإجراءات على الأقل، فعملية اختيار المشاركين تكون انتقائية لا انتخابية ولا تتبع في مداولاتها الإجراءات البرلمانية الراسخة لكنها في الوقت عينه تبدد النخبوية وتوسع النقاش عن القضايا المصيرية إلى فئات واسعة، وتسمح بظهور نخب وتحالفات جديدة قائمة على التوافقات الفكرية والمصلحية وفقا لهوامش الحركة وطبيعة العلاقة مع السلطة الجديدة. وبهذا المعنى، لا توجد وصفة مجربة “للحوارات الوطنية” يمكن استنساخها على مستوى المسار والنتائج. لكنها، ومن خلال استقراء العديد من التجارب السابقة، كانت بمنزلة نقطة البداية لعمليات انتقالية سياسية، ففي بعض البلدان نجم عن الحوارات الوطنية تعيين حكومات انتقالية، وفي البعض الآخر خرج عنها دساتير انتقالية وجمعيات تأسيسية، وفي حالات أخرى نجحت الحوارات الوطنية بكتابة الدستور نفسه بنسخة أولية وحولته إلى هيئة صياغة. ليس هذا فحسب، نجحت الحوارات الوطنية في بعض البلدان في تصميم العملية السياسية وخارطة الطريق التي قد تتمكن البلاد من حل مشاكل إشكالية تتعلق بالهوية والعدالة الانتقالية، والتعويضات، وكتابة التاريخ وحل إشكالية الصراع على الذاكرة.
لا توجد وصفة مجربة “للحوارات الوطنية” يمكن استنساخها على مستوى المسار والنتائج. لكنها، ومن خلال استقراء العديد من التجارب السابقة، كانت بمنزلة نقطة البداية لعمليات انتقالية سياسية
باختصار، تتحدد نتائج عمليات الحوار الوطني بناء على “تصاميمها”. وبحسب دراسة أجرتها كاتيا باباجياني Katia Papagianni الباحثة في مركز جنيف للحوار الإنساني، فإن هناك ثلاثة توترات متأصلة في تصميم عمليات الحوار الوطني، والتي تؤثر على شرعيتها وفعاليتها وفق الآتي:
- حجم وتكوين الحوارات الوطنية: ما مدى حجم الحوارات الوطنية؟ ما مدى اتساع شبكة الإدماج؟ ما هي الدوائر التي يجب أن تشملها وكيف ينبغي اختيار ممثليها؟
- صلاحيات الحوارات الوطنية وتفويضها: ما هي علاقتها بمؤسسات الدولة القائمة مثل الحكومات؟ ما هي سلطات صنع القرار؟
- مسألة استقلال الحوارات الوطنية: هل يجب التصديق على قرارات الحوارات الوطنية من قبل المؤسسات القائمة أم يجب أن تكون قراراتها نهائية لا سيما في فترات الانتقال، فغالبا ما تكون الحكومات المؤقتة غير المنتخبة في السلطة وقد تفتقر إلى الشرعية في نظر الجمهور مقارنة بالحوارات الوطنية الكبيرة والشاملة.
حل التوترات يحدد الفعالية: عن التفويض واللجنة التحضيرية
غني عن القول إن حل التوترات السابقة يتم من خلال النقاشات بين مكونات السلطة نفسها أولا والمفاوضات مع الجهات المشاركة بشأن صلاحيات الحوار ودوره في عملية الانتقال ليصار الاتفاق إلى ما يتعارف عليه بـ “التفويض – The mandate of national dialogue processes”، وقد يؤجل هذا التفويض ليكون جزءا من الحوار بحد ذاته مع ضرورة الاتفاق على مجموعة من المبادئ العامة مخافة أن يؤدي النقاش على صلاحيات الحوار وسلطاته إلى إفشال الحوار، ففي حالات مثل أفغانستان، العراق، واليمن إلى حد بعيد، ثبت أنه من الصعب توسيع المشاركة السياسية عندما يكون تفويض الحوار محل نزاع، وتحول الحوار من وصفة للحل إلى فتيل لحروب ونزاعات بينية لم تنته٬ ذلك أن السلطات بادرت إلى الحوار تحت ضغط الخارج لا احتياجات الداخل، وصارت المفاوضات على “تفويض الحوار” أشبه بالتفاوض على المحاصصة السياسية والطائفية. وعليه، ومن خلال استحضار تجارب غرب أفريقيا الناجحة والتي تتشابه مع مجتمعاتنا في التعدد الإثني والعرقي وكذلك في سنوات الصراع الطويلة، يمكن الاتفاق بداية على “تفويض محدود” للحوار يتطور لاحقا بتطور النقاشات وإدماج أكبر عدد من الفاعلين السياسيين والمجتمعيين.
في حالات مثل أفغانستان، العراق، واليمن إلى حد بعيد، ثبت أنه من الصعب توسيع المشاركة السياسية عندما يكون تفويض الحوار محل نزاع، وتحول الحوار من وصفة للحل إلى فتيل لحروب
يقودنا ما سبق إلى العنصر الثاني الذي لا يقل أهمية عن تفويض الحوار ألا وهو “العملية التحضرية – The preparatory process”. فالتحضير لعملية الحوار الوطني قد يستغرق وقتا طويلا في كثير من الأحيان، لكنه أمر أساسي لنجاحه. وبحسب كاتيا باباجياني فإن الإعداد الجيد يتم عبر تشكيل لجنة متنوعة وتمثيلية على نطاق واسع تتولى مسؤولية إعداد كافة جوانب الحوار.
تجدر الإشارة إلى أن تعيين اللجنة قد يكون محل نزاع وقد ينتج عن مفاوضات طويلة إلا أنها ضرورة ملحة ويحدد اختيارها مدى القبول من قبل القوى السياسية المختلفة والجمهور لأن اللجنة التحضرية عادة ما تكون مسؤولة عن ما يلي:
- تحديد معايير المشاركة في الحوار والعملية التي سيتم من خلال اختيار المشاركين.
- الإشراف على عملية الاختيار.
- صياغة الخطوط العريضة لأجندة الحوار وإعداد التوجيهات للمشاركين في الحوار حول كيفية التعامل مع بنود الأجندة المختلفة.
- إنشاء هيكل دعم طوال مدة الحوار، وعادة ما يكون ذلك في شكل أمانة عامة.
- إعداد جميع الجوانب الإدارية واللوجستية للحوار بما في ذلك المكان والأمن والجوانب الأخرى.
اختيار المشاركين: جوانب إجرائية وسياسية
مقارنة بالتفويض واللجنة التحضيرية٬ فإن عملية اختيار المشاركين في عمليات الحوار الوطني مسألة في غاية الصعوبة وتواجه دائما بمطالب قوية من فاعلين مختلفين للحضور بغرض التأثير في المناقشات الوطنية. في ضوء ذلك، فإن عملية الاختيار غالبا ما تكون محفوفة بالخلافات لا سيما أن اللجنة المكلفة بإعداد الحوارات الوطنية غالبا ما يتم تعيينها من قبل حكومات مؤقتة غير منتخبة.
تبرز صعوبة الاختيار بشكل كبير بعد الثورات الشعبية حيث ينجم عن انهيار النظام حل المؤسسات التمثيلية التابعة له مثل البرلمانات والأحزاب السياسية
وتبرز صعوبة الاختيار بشكل كبير بعد الثورات الشعبية حيث ينجم عن انهيار النظام حل المؤسسات التمثيلية التابعة له مثل البرلمانات والأحزاب السياسية وبالتالي تنتفي القدرة على اختيار المشاركين بناء على تمثيل الدوائر الانتخابية٬ ويصار إلى تطوير اختيار المشاركين في عملية الحوار على أسس مختلفة بحيث تشمل الأحزاب السياسية الجديدة والمجتمع المدني والوجهاء المناطقيين والزعماء الدينيين والجماعات العرقية، والأقليات والجمعيات المهنية وغيرها.
لكن هذا التطوير، خاصة بعد الثورات الشعبية وإسقاط الأنظمة الاستبدادية، يواجه بكثير من الأسئلة الملغمة من قبيل هل يتم إدماج قادة من النظام السابق أو قاعدته الاجتماعية الصلبة أو الرخوة في الحوار أم تطبق قاعدة الاستبعاد والعزل السياسي؟ تشمل العملية أيضا إدارة توقعات القوى الثورية لا سيما أن اللجنة التحضيرية وحرصا على ترسيخ صلاحياتها وتفويضها تميل إلى دعوة المشاركين بصفتهم الفردية لا المؤسسية أو الكيانية. إن إدارة توقعات الفاعلين بالثورة مسألة مهمة كضرورة لإدماجهم، وهو وحده يساهم بالانتقال من عقلية الثورة إلى بناء الدولة.
يتمسك الفاعلون بشرعية الثورة بوصفها التعبير الأجدى عن وجودهم ومستقبلهم٬ وتأتي المشاركة بوصفها مكافأة على تضحياتهم وتعبيرا من النخبة الحاكمة على رغبتها بالتشاركية، وهنا تثار مسألة بغاية الأهمية في تحديد تركيبة عملية الحوار ألا وهي “تحديد حجمه”. ولمعالجة الإشكالية السابقة، طورت التجارب المختلفة مجموعة من المنهجيات لمعالجة مسألة اختيار المشاركين:
- يمكن إجراء حوارات كبيرة تضم عدة آلاف من الأشخاص لتجنب مسألة الاعتراض، لكن الإشكالية هنا تكمن في أن الحوارات الكبيرة تميل إلى امتلاك سلطات قليلة في اتخاذ القرار لأنه من الصعب مناقشة القضايا الرئيسية التي تواجه البلاد بالتفصيل في تجمع يضم آلاف المشاركين.
- يمكن إجراء حوارات صغيرة للغاية تضم مئة أو مئتي شخص على أكبر تقدير من أجل ضمان مناقشات مفصلة بما فيها المناقشات حول المبادئ الدستورية والمسائل المهمة لكن هذا الإجراء يجعل من الصعب أن يكون الحوار شاملا وأن يعمل كوسيلة تفاوضية.
ثم يصار إلى عملية اصطفاء تُتبع فيها بعض الطرائق الانتخابية التمثيلية وكذلك الانتقائية التعيينة من قبل اللجنة التحضيرية للوصول إلى هيئة عامة للحوار تضم نحو مئة شخص تتوزع على لجان وتناقش تفصيلا كل المسائل المهمة للمستقبل
في ضوء ذلك، تنصح دراسات أكاديمية عدة باتباع منهجية هجينة تجمع ما بين الكم والنوع بحيث يكون الحوار على مراحل يبدأ بمجموعة كبيرة من الأشخاص لتخفيف الانتقادات حول المشاركة ومن ثم يصار إلى عملية اصطفاء تُتبع فيها بعض الطرائق الانتخابية التمثيلية وكذلك الانتقائية التعيينة من قبل اللجنة التحضرية للوصول إلى هيئة عامة للحوار تضم نحو مئة شخص تتوزع على لجان وتناقش تفصيلا كل المسائل المهمة للمستقبل. تُعالج بذلك علة التعيين والانتقائية في الاختيار ويراعى في الوقت نفسه معايير الكفاءة بحيث تنوب هذه الهيئة عن البرلمانات في المرحلة الانتقالية. ويمكن في الوقت عينه أن تدعو هذه الهيئة مجموعات وشخصيات معينة بصفة استشارية مثل التكنوقراط للمساهمة دون أن تتحمل تبعات التمثيل وتداعياته. باختصار، يتطلب الوصول إلى المسألة الثانية معايير واضحة، ومشاورات شفافة، وجدولا زمنيا، وآليات انتخابية داخلية تعالج علة الانتقائية.
تنوب هذه الهيئة عن البرلمانات في المرحلة الانتقالية. ويمكن في الوقت عينه أن تدعو هذه الهيئة مجموعات وشخصيات معينة بصفة استشارية مثل التكنوقراط للمساهمة دون أن تتحمل تبعات التمثيل وتداعياته
خاتمة: أدوات قياس الفاعلية
يمثل الحكم على نجاح الحوارات الوطنية أو فشلها مسألة مثيرة للجدل ذلك أن النتائج تكون في بعض الأحيان غير ملموسة لكنها تشمل تعزيز ثقافة المناقشة وحرية التعبير وكسر النقاش في القضايا المحظورة وترسيخ معايير الإدماج والتمثيل لا سيما للمجموعات المهمشة، والقدرة على إبقاء الجهات الفاعلة داخل العملية السياسية.
غالبا لا تصل عمليات الحوار إلى أهدافها الكبيرة لكنها تنجح في تجنب الصراع وإدارة الخلافات السياسية بطريقة سلمية وإقناع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين بمواصلة الانخراط في العملية السياسية. الأمر الذي يجنب البلاد التدخلات الأجنبية من خلال استغلال شعور المظلومية والتهميش لدى البعض لا سيما أن التحولات السياسية بعد الثورات توصف بأنها عمليات مضطربة بحكم سقف التوقعات النظرية مقابل صعوبة تحقيقها على أرض الواقع.
المصدر: تلفزيون سوريا