بين نموذج حافظ الأسد وسوار الذهب

د. أحمد سامر العش

لا يخفى على الجميع أن النموذجين (حافظ الأسد وسوار الذهب) يشكلان حالتين متناقضتين للحكم بعد الاستيلاء على مقاليد السلطة, الأسد الأب جاء بانقلاب عسكري ليزيح جناح صلاح جديد من المشهد، وسوار الذهب جاء بانقلاب عسكري ليزيح جعفر النميري من السلطة. ربما يقول قائل شتان بين الثرى والثريا, لكن هل يوجد سيناريوهات وسيطة بين تلك الحالتين اللتين شاءت الظروف أن تتمكنا من الحكم في دولتين وازنتين؟ الأول تشبث به واستعان بالطائفة والعصبية والعمالة للقوى العالمية والإقليمية وسلاح الخوف والجريمة, والآخر زهد بها، وتخلى عنها، واتجه إلى المسجد، وابتعد عن المناصب داخل بلده. سوار الذهب يُذكرني بمعاوية بن يزيد بن معاوية، حيث قال عنه ابن الأثير: بويع معاوية فلم يمكث إلَّا ثلاثة أشهر حتى هلك، وقيل بل ملك أربعين يومًا ومات. ولما كان في آخر إمارته أمر فنودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإني ضعفت عن أمركم، فابتغيت لكم مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت سنته مثل أهل الشورى، فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم، ثم دخل منزله وتغيب حتى مات مسمومًا، وكان معاوية أوصى أن يصلي الضحاك بن قيس بالناس حتى يقوم لهم خليفة، وقيل لمعاوية لو استخلفت، فقال: لا أتزود مرارتها وأترك لبني أمية حلاوتها.

لقد انقلب سوار الذهب في يوم 9 أبريل 1985 على النميري، وأعلن عبر إذاعة أم درمان تعطيل العمل بالدستور وإعفاء رئيس الجمهورية ونوابه ومساعديه ومستشاريه ووزرائه المركزيين ووزراء الدولة من مناصبهم. وجرت انتخابات برلمانية في البلاد في العام التالي 1986 التي لم يفز فيها أيُّ حزب بالأغلبية وإن كان حزب الأمة قد حاز مقاعد أكثر من الأحزاب الأخرى، فشُكلت حكومة ائتلافية وسلم سوار الذهب السلطة إلى حكومة الصادق المهدي في 26 أبريل 1986. وهي سابقة في تاريخ الانقلابات العسكرية في الوطن العربي، ولكن يشكك بعضُهم في أن سوار الذهب سلم السلطة طواعية وإنما سلمها تحت ضغوط. تقاعد سوار الذهب بعد تسليمه للسلطة، واعتزل العمل السياسي، وتوجه نحو العمل المجتمعي، فشارك في الكثير من المؤتمرات المحلية والإقليمية والعالمية المهتمَّة بالعمل التطوعي والدعوة الإسلامية وشؤون المسلمين، وكان له دور كبير بدعم التعليم والعمل الصحي والاجتماعي في السودان. ورأس سوار الذهب عددًا من الجمعيات فكان رئيس مجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية. أشرف سوار الذهب على بناء الكثير من المدارس والمستشفيات ودور الأيتام وحفر الآبار، واهتم بتحفيظ القرآن وتدريس العلوم الإسلامية.

معاوية بن يزيد لم يُلغِ الملك العضود رغم أنه كان يملك القرار, وكذلك سوار الذهب لم يؤسس لهياكل سياسية تحمي الدولة. إذن هل محكوم على الأمة التأرجح بين مستبد وزاهد, أم يمكن أن يكون بينهما نموذج يصنع التغيير.

في دول كسوريا سيبقى شكل الدولة فيها يحكمه مزيج من أجندات الخارج ورغبة الداخل كونها دولة وظيفية وتقع في قلب القارة المركز بحسب نظرية كيسنجر. ولكن المجتمع السوري الآن لايملك هياكل اجتماعية ولا سياسية. عبر التاريخ كانتِ السياسةُ القوةَ التي تشكل المجتمعات، وتؤثر في هيكلتها، وخاصة إذا كُتب لها الفترة الزمنية الكافية، والدليل قول بلقيس الذي صدقه الخالق: ﴿ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ﴾[ النمل: 34]. وكذلك نعلم أن السياسة وهياكلها هي انعكاس لتفاعل القوى المجتمعية مع الثروة والسيف والدين والعصبية القبلية في مزيج عجائبي يحكمه الزمان والمكان. إذن كيف تخرج سوريا من أزمتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتملك جزءًا ولو يسيرًا من قرارها . أحمد الشرع وصل بقوة السلاح، ولكن ليس بدعم خارجي صرف كما هو حال من سبقوه في دول الموز، ولكن بتضحيات شعبٍ أراد الكرامة والحرية، ودفع في سبيل ذلك رغمًا أو طوعًا أكثر من مليون شهيد وآلاف المعتقلين والمغيبين وملايين المهجرين. يقول علم الديناميات الحلزونية Spiral dynamics: إن الشعوب التي تعيش في ظل الاستبداد لفترة طويلة لا تملك الهياكل الاجتماعية التي تمكنها من امتلاك قرارها؛ لذلك تبحث عن مستبد عادل أو تحالفات خارجية أو هياكل ثيوقراطية تستطيع تأطير الشارع باسم الأيديولوجيا والمذهب والسرد الأسطوري. لكن هل يقلب السوريون شعبًا وقيادة كافة الموازين. مع سقوط النظام تداعت القوى الاستخباراتية التي تحركها الحكومة العميقة للعالم بسرعة لاستيعاب ما خرج عن النص, ولا أحد يعلم ماذا ينوون أن يفعلوا وتداعى كذلك الموظفون البيروقراطيون -الذين بطبيعتهم لا يتفردون بالقرار السياسي بل ينفذون الأجندات- إلى سوريا بنفس الأسطوانة المشروخة القديمة منذ 200 عام، وربما منذ أيام الحملة الصليبية الأولى، وهي حجة حماية الأقليات. الأجندة الدولية غير واضحة المعالم بعد بانتظار ثلاثة عوامل  تتفاعل مع بعضها لتفرز المُخرج النهائي: أولًا تفاعل الدولة العميقة الأمريكية مع قرارات ترامب وحصيلة الصراع المحكوم بمدة قصيرة لا تتجاوز الأربع سنوات, ثانيًا: أجندة الدولة اليهودية العميقة في المنطقة ( من أمثال الشرق الأوسط الجديد, وطريق الحرير الجديد, وحلم إسرائيل الكبرى), وأخيرًا دراسة القوى الشعبية والمزاج الداخلي وكيفية إدارته ( وهذه مهمة وزراء الخارجية الذين يتوافدون للمنطقة بقوة). تفاعل وامتزاج كلِّ ما سبق سيؤدي إلى الوصول إلى مرحلة تثبيت الإستراتيجية العميقة في المنطقة التي ستمتد للخمسين سنة القادمة. الحكومة الانتقالية عليها أن تدرك أنها أداة و مؤشر في الوقت نفسه, وليست صاحبة قرار نهائي إلا بمساحة ضيقة تتناقص مع مرور الوقت. امتلاك الشعب السوري الحالي ولجيلين قادمين لجزءٍ من حريته يتوقف على سرعة هذه الحكومة في وضع خارطة طريق اجتماعية ( فرز وجاهات محلية, نقابات مهنية, معالجة الخدمات الأساسية بالحد الأدنى أمن غذاء صحة تعليم…) وسياسية (عدالة انتقالية, دستور انتقالي, قانون أحزاب, خارطة حياة سياسية لمدة عشر سنوات… والأهم من هذا صمام أمان اجتماعي: لجنة أمناء على سوريا تشبه المحكمة الدستورية العليا، ولكن بشكل شعبي منتخب “آباء مؤسسون للدولة السورية الحديثة”, أما استفرادها بالسلطة على الطريقة المعروفة “أداة تنفيذ لقوى خارجية” أو الزهد بها على طريقة سوار الذهب، وترك المجتمع المتشظي الذي نعلم جميعًا أنه يكره نفسه بنفسه فستكون أيضًا لها مألات معروفة. المسارعة بخارطة طريق اجتماعية وسياسية والتصويت عليها شعبيًّا لا يحتمل التأخير؛ لأن العاملينِ الاثنين من الثلاثة الآنف ذكرهم لا تنجح إلا بأدوات داخلية تستغل أيَّ شرخ اجتماعي و سياسي؛ وهذا موجود بكثرة في سوريا ما بعد الأسد. ولن تنفع قوة الهيئة العسكرية ودعم الاستخبارات الدولية في وقف العاملينِ الأولينِ إذا أخذوا القرار عندها يصبح الجولاني والهيئة مشروعًا مستبدًا جديدًا أو زاهدًا مهزومًا، وفي تلك الحالتين سيصبح قصيرَ الذِّكرِ في الدنيا عظيمَ الحساب في الاخرة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى