برز أخيرا سجال حاد على وسائل التواصل الاجتماعي، إثر منشور كتبته الصحافية ميساء آقبيق تحط فيه من قدر الريف ودوره في تخريب الثورة السورية، ثم ألحق المنشور بمنشور آخر للمعارض السياسي، سمير نشار (كان أقل حدة وأكثر موضوعية من منشور آقبيق) يُحمّل فيه الريف مسؤولية ترييف الثورة وأسلمتها.
وأن يطرح النقاش حول جدلية الريف والمدينة لأجل الوقوف على نقاط الضعف التي تعتري المجتمع السوري، فهذا من الفعل المعرفي الضروري، وأن يطرح النقاش لمعرفة السمات الجوهرية للريف والمدينة، فهذا مهم، حين يتعلق الأمر بالقضايا السياسية العامة، وبالحراك السياسي العام، شرط أن يوضع التمييز بينهما ضمن السياق التاريخي لتطوّرهما، خصوصا في مرحلة ما بعد وصول حزب البعث إلى الحكم. ولكن أن تطرح جدلية الريف والمدينة لتصيد الأخطاء، ولإبراز العلو الاجتماعي والأدوار التاريخية السابقة، فهذا أمرٌ لا أهمية له وغير مفيد، بل قد يشكل ضررا للعلاقة بين الريف والمدينة مستقبلا في وعي كثيرين.
كتبت آقبيق منشورها بلغة أقرب إلى المخيال الاجتماعي منه إلى المعرفة السوسيولوجية، والمخيال الاجتماعي مجالٌ تسوده القناعة، وليس مجالا تسوده المعرفة، كما جاء منشورها أقرب إلى النزعة الانفعالية غير الموضوعية، فاستنبطت من حالاتٍ فردية أحكاما كلية. وبهذا، من دون أن تدري، قامت بتعميم المفاهيم ومنحها حالةً معطاة ثابتة لوضع إمبريقي متغير. بعبارة أخرى، كان منوطا بآقبيق دراسة الآثار السياسية والعسكرية لتجربة الريف خلال الثورة، واستخلاص العبر منها، بدلا من استنباط تعاريف ثابتة للريف (لم يعيشوا أدنى معايير المدنية، يستطيعون العيش في جميع الظروف ومع أي معطيات، أنهوا تماما جميع المكونات المجتمعية السورية من المتعلمين والعارفين والكفؤين وأبناء العائلات الشبعانة). وفي المقابل، كتب سمير نشار منشوره بلغة الحتمية التاريخية، على اعتبار أن الريف والمدينة، من وجهة نظره من دون أن يصرح بذلك، حالتان ثابتتان خارج السيرورة التاريخية.
ليس هدف هذا المقال رفض مقولة آقبيق ونشار عن أهمية المدينة ودورها التاريخي في كل الأزمنة والأمكنة، فلا خلاف على ذلك، بل قد أذهب إلى أكثر من ذلك، لأقول إن غياب المدينة، بوصفها حالة مدنية سياسية ـ اقتصادية، خلال العقود الماضية، كان سببا رئيسا في اتخاذ الثورة المسارات التي اتخذتها.
لقد نشأ مفهوم التحضر من المدينة وليس من الريف، ونشأ الفرد المنعزل الذي يتلمّس كينونته في المدينة، حيث الفضاء العام ومؤسسات المجتمع المدني، بما يتيح للفرد امتلاك أدواتٍ للتعبير ليست موجودةً في الريف. وبهذا يصبح الإنسان الفرد في المدينة كائنا معقدا، بسبب تعدّد رؤاه وتعدّد إمكانية التعبير عن هذه الرؤى، بعكس عالم الريف، حيث سردية الحياة تميل إلى النسق النمطي. ولذلك يغلب على الريف أسلوب التبعية، وأسلوب العمل الجماعي لا باعتباره عملا جماعيا يعكس إرادة الأفراد الداخلين فيه، بقدر ما هو عمل جماعي عضوي، ضمن كتلة صماء في أحيانٍ كثيرة. في المدينة، تتلاقى الذوات الفاعلة والمنفعلة، بكل تنوعاتها الاجتماعية ـ السياسية ـ الاقتصادية ـ الثقافية ـ الطائفية ـ الإثنية. ومن هذا التنوع والتلاقي اليومي، تتوسع المدارك وتتنوع الخيارات الفردية والجماعية، وهو أمر غير متاح في معظم الأرياف.
يروي المؤرخ الدمشقي، ابن كنان الصالحي، في بدايات القرن الثامن عشر، أن بيوت الولاة لم تكن تخلو من الصالونات الفكرية، حيث يجتمع علماء الدين والأدباء والشعراء ورجال السياسة وطلبة العلم للتباحث في القضايا المعرفية والسياسية. ويتابع إن هذه المجالس لم تقتصر على بيوت الولاة، بل كانت منتشرة في أحياء دمشق في الأسواق والحمامات والمقاهي، فضلا عن الأديرة والكنائس التي كانت مكانا للعلم. وعن دور علماء الدين، يروي ابن كنان حكاية تعبر عن واقع الحال آنذاك، فيقول إن مفتي الحنابلة بدمشق، أبو المواهب الحنبلي، رفض أوامر الوالي العثماني دفع الضرائب، وهدد مع طلابه بعدم إقامة صلاة الجمعة.
وتكشف هذه المعطيات التاريخية البسيطة ما تملكه المدينة كحاضرة من فضاء مدني، يتيح أدوارا سياسية وثقافية للفاعلين الاجتماعيين، لا يمكن توفرها في الريف. وحتى الأرياف التي حققت تطورا اجتماعيا واقتصاديا خلال القرن الماضي، وقعت في مأزق هوياتي، فهي، وإن تركت عالم الريف القديم القائم على الفلاحة، وانتقلت إلى عالم الصناعة والتجارة، إلا أنها لم تتحوّل إلى حالة مدينية كاملة، فافتقرت روح الريف وقيم المدينة في آن. ومن هذا الضياع، تبلورت ذوات تبحث عن أدوار اجتماعية، حتى وإن كانت أدوارا شكلية، وقد وجدت كثرة من هذه الذوات ضالتها في الثورة، ولكن على طريقتها الخاصة.
ولا أحد يستطيع أن ينكر أن كثيرين ممن حملوا السلاح في القرى كانوا من رعاع القوم ودهمائه، ومن المهم الانتباه هنا إلى نقطة حساسة، أن حالة الدهماء هذه حالات فردية، لا جماعية تعبر عن الريف (وهو الخطأ الذي وقعت فيه الصحافية ميساء آقبيق)، لكن المهم في هذه الحالة أن الفضاء الريفي يسمح بوجود مثل هؤلاء، بخلاف فضاء المدينة الذي لا يسمح بذلك، لأن أدوات المدينة تختلف اختلافا كبيرا عن أدوات الريف.
وقد جانب سمير نشار الصواب، حين كتب إن أدوات الاحتجاج في المدينة ضد السلطة هي المظاهرة، الإضراب، الاعتصام، العصيان المدني، لكنه تسّرع، حين اعتبر أن أداة الاحتجاج الوحيدة في الريف هي حمل السلاح… الفرق، كل الفرق، بين أن يكون السلاح أداة الاحتجاج الرئيسية في الريف واعتبار أن الفضاء العام في الريف يسهّل عملية حمل السلاح، خصوصا في الأرياف الجبلية والصحراوية في ظروفٍ معينة. وثمّة فرق هنا بين من حمل السلاح مضطرا للدفاع عن حياته وأسرته ومنزله في مواجهة سياسة القتل التي اتبعها النظام ومن حمل السلاح اعتقادا منه أنه أحد الأدوات الرئيسية لانتصار الثورة. وفي الحالتين، يسمح الفضاء الريفي بحمل السلاح، في حين لا يسمح فضاء المدينة بذلك. وعليه تساهل النظام منذ البداية، أو غض الطرف عن عمليات تهريب السلاح في الأرياف، خصوصا من لبنان.
إضافة إلى ذلك، لا يسمح الواقع في دمشق أولا، ثم حلب ثانيا، بحمل السلاح، بسبب السيطرة الأمنية المباشرة للنظام. ولست أدري لو ضعفت هذه القبضة الأمنية، هل سيحمل أهالي المدينتين السلاح إن اضطرّوا إلى ذلك، ولعل في تاريخ الثورة الفرنسية ما يجيب بأثر رجعي، حين كان أهالي باريس، لا الريف الفرنسي، هم من حملوا السلاح بداية، والرابع عشر من يوليو/ تموز عام 1789 ما يزال حاضرا، حين اقتحم باريسيون سجن الباستيل، وحصلوا على 32 ألف بندقية.
أما في ما يتعلق بأسلمة الثورة السورية، فهذه مسألة لا تتعلق بطبيعة الهويات بين الريف والمدينة، بل إذا ما أخذنا البعد الهوياتي والبيئة الاجتماعية بعين الاعتبار، فإن المدينة في سورية أكثر محافظةً وتدينا من الأرياف، وكثيرا ما يأخذ أبناء المدن على الريف حالة الميوعة الدينية على المستوى السلوك الاجتماعي.
تعود أسلمة الثورة في الريف إلى انعدام الخيارات الأيديولوجية الأخرى، فليس ثمّة أيديولوجية وطنية في سورية، وعادة ما يلجأ الإنسان، في لحظات الخطر، إلى الدين وسادة أيديولوجية تبعث على الطمأنينة من جهة، وتشحذ الهمم من جهة أخرى، ولم تكن مصادفة أن تأتي الأسلمة عقب عسكرة الثورة لا قبلها. يضاف إلى ذلك البعد الخارجي في الصراع، حيث لعب الدعم الإقليمي للثورة دورا في دفعها نحو الأسلمة. وبهذا، كانت أسلمة الثورة كعملية تعبيرا عن وضع خاص عاشته الثورة السورية، يعبر عن مرحلة تاريخية في ظروفٍ تكاد تكون تاريخية، وبالتالي لا يمكن اعتبار الأسلمة تعبيرا عن حالة هوياتية للريف. ومع ذلك، قد يكون لغياب الخيارات السياسية والمدنية في الريف دورا في الذهاب نحو الأسلمة، إلا أن هذا العامل لا يشكّل أهمية كبرى في ضوء عمليات القتل التي بدأها النظام.
كان حريا بميساء آقبيق وسمير نشار التساؤل عن أسباب اختلال العلاقة بين الريف والمدينة في الثورة السورية، حين لحقت المدينة بالريف، بدلا من أن يحدث العكس. لماذا حدث الاستثناء ولم تتحقق القاعدة؟ فقدت المدينة في سورية دورها الريادي، ليس لأن عملية ترييف تاريخية جرت للمدينة، بل لأن عملية الترييف هذه ما كان لها أن تأخذ هذا البعد، لولا انعدام القوى الاجتماعية ـ الاقتصادية ـ السياسية المدينية، أو ضعفها.
لم تعد المدينة، وتحديدا دمشق وحلب، تمتلكان أدوات القوة السياسية التي تخوّلهما الريادة، بعدما غادرت القوى الاقتصادية والسياسية البلاد، بعد عمليات التأميم السياسي والاقتصادي، وتحوّل طبقة الأعيان الموجودة إلى قوى زبائنية ريعية. ولم تكن مصادفة أن مظاهرة الحريقة في منتصف مارس/ آذار 2011، كانت حالة منفردة لم تتحوّل إلى حالة عامة، وليس مصادفة أن تلغى مظاهرة ساحة سعد الله الجابري في حلب مطلع الثورة، في حين شهدت الساحة ذاتها في 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2011 مظاهرة عارمة دعما للنظام.
تنبه عالم الاجتماع الألماني، جورج زيمل، إلى أن أفراد المدينة غالبا ما يتميزون بصفة الفردانية والنفعية، حيث يكون الفرد أكثر وعيا بذاته وأكثر حرية، لكنه، في الوقت نفسه، أضعف من ناحية العلاقة مع الآخر… في كل الأحوال، ثمة خلاف وتمايز بين الريف والمدينة، وليس المطلوب تقديم كلمات جميلة للمواربة أو للاختباء وراءها بالقول إنه لا يوجد تمييز تفاضلي، سلبي أو إيجابي، بينهما كما ذهبت إلى ذلك الكاتب سميرة مبيض، فهذا لا يقدم إجابات موضوعية لهذه الإشكالية.
المصدر: العربي الجديد