لا يزال من المبكّر معرفة تداعيات الحدث المدوّي وارتداداته بشكل مؤكّد، إذ من المحتمل أن تفاعلات عميقة متفاوتة السرعة تعتمل في المجتمعات العربية والدول الإقليمية يصعب رصدها أو توقّعها. وعلى الرغم من أن الانفجار السياسي الكبير الذي حدث في دمشق أدّى بشكل رئيس إلى تحطيم محور طهران – بيروت، فإن الشظايا السياسية طاولت الإقليم كلّه، وما بعد الإقليم، وفرضت على الفور جملةً من المعطيات، جعلت المنطقة على نحو مفاجئ أمام وقائع لا يمكنه تجاهلها:
أولاً، انتصار ثورة في “الربيع العربي” ضدّ دكتاتور طاغية تخلّى عنها الجميع تقريباً، ثم أريد لها أن تكون عبرة لغيرها في الفشل، وعملوا على وأدها، أو التعامل معها ملفّاً مرفقاً للعلاقة مع إيران، ثمّ سعى الجميع إلى استرضاء الأسد وتعويمه.
ثانياً، قيام نظام سياسي جديد، يسعى إلى أن يكون ديمقراطياً في محيط عربي غير ديمقراطي بالمرّة.
ثالثاً، قاد الانتصارَ إسلاميون كان العرب يحاربونهم منذ عقد بالطرائق المتاحة كلّها، بسبب ارتباطهم بـ”الربيع العربي”، فمعظم الدول التي حدثت فيها ثورات من “الربيع العربي” كان الإسلام السياسي فيها وريث الأنظمة الدكتاتورية في المراحل الأولى. تضاعف ذلك الخوف أيضاً لأن التنظيم الذي قاد إطاحة النظام بالقوة مصنّف “إرهابياً”، وقائده كان في رأس جائزة بعشرة ملايين دولار بصفته “إرهابياً” مطلوباً للولايات المتحدة، ويشكل خطراً على أمنها القومي.
على إيران التكيّف مع الوضع الجديد الذي أحدثه التغيير في سورية وإعادة تعريف علاقتها بالمجال الإقليمي الحيوي
رابعاً، إحباط مشروع لتقسيم سورية بهدف إضعاف إيران وطردها كان عرب ضالعين فيه، لكن اجتثاث مليشيات إيران بشكل جذري على هذا النحو جعل هذا المشروع منتهيا.
خامساً، وجود تركيا في الصورة بقوة، إذ لا يمكن إنكار أنها كانت الشريك الرئيس للمعارضة التي تخلّى عنها الجميع، والجارة القوية اقتصادياً، فضلاً عن أنها ذات نظام ديمقراطي.
سادساً، الخوف من عودة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذي لا يزال يملك خلايا في مثلّث صحراوي في الحدود الأردنية العراقية السورية، جنوب دير الزور، وصولاً إلى تدمر غرباً، والبوكمال جنوباً.
في مقابل هذه الوقائع، ثمّة هواجس انبثقت على الفور مع نبأ سقوط الأسد، وهي أساساً احتمال انتشار الفوضى وعمليات انتقام واسعة وانعدام الأمن في الحدود، وانهيار مؤسّسات الدولة، والاضطرار للتعامل مع الإسلاميين، مع ما يعنيه ذلك من قلق من إحياء آمال الإسلاميين في المنطقة وتشجيعهم على تقليد السوريين، ثمّ الخوف الجيوستراتيجي المتعلّق بملء الفراغ السياسي الذي خلّفه خروج الإيرانيين والروس، وتركيا بطبيعة الحال الكاسب الأكبر، وكانت طوال الوقت الحليف الإقليمي شبه الوحيد للمعارضة، بالإضافة إلى دولة قطر.
في مقابل المخاوف، ظهرت على الفور مكاسب استراتيجية لم يكن يحلم بها الإقليم، منها إنهاء أشكال الوجود الإيراني كلّها، واقتلاع جذوره من سورية. كما مُنِح لبنان فرصة استعادة الدولة مع قطع الذراع الإيرانية في سورية، وإنهاء آمال حزب الله في الاعتماد على الأراضي السورية مكاناً لأنشطته، وفي محاولة إعادة بناء نفسه بعد أن تعرّض لاستهداف شديد في شهرَي سبتمبر/ أيلول وتشرين الأول/ أكتوبر (2024). أيضاً انتهى إنتاج (وتجارة) الكبتاغون، والمخدّرات الأخرى (الكريستال الإيراني، الحيشيس)، وهو أمر كان يشكّل أداةَ ابتزاز سياسي وخطراً كبيراً على الدول المجاورة، ومصدر قلق شديد. كما أصبح في سورية نظام سياسي جديد يهدف إلى وقف الحرب وغير قادر على مزيد من الحروب، ويسعى إلى السلام، ليتمكّن من بناء بلاد مدمّرة بالمعنى الحرفي للكلمة، مع ظهور خطاب سياسي مسؤول، ومقبول ومطمئن، يسعى إلى بناء علاقات قائمة على الاحترام المتبادل، وطي صفحة الماضي.
عكس أداء قائد قيادة العمليات العسكرية التي يرأسها أحمد الشرع مفاجأةً، فقد أظهر كثيراً من المرونة والتفهّم لهواجس الدول، وبدا أنه تجاوز سريعاً دهشة الوصول إلى رئاسة الدولة والجلوس في قصر الشعب، وهو الذي كان أقصى طموحه، قبل أقلّ من شهر، السيطرة على حلب، فإذا الدولة الآن كلّها بين يديه، وساهم انتقال السلطة السلس ووقف إطلاق النار (مع وجود دول راعية) في تخفيف حدّة الهواجس. وفجأة بدأ قطار دمشق يتحرّك، منذ اليوم الأول للسقوط، فقد كانت الولايات المتحدة الحليفة للمعارضة السورية (أقله نظرياً) قد التقطت بسرعة المكاسب الجيوستراتيجية الهائلة، وأعلنت عن احتمال مراجعة تصنيف هيئة تحرير الشام في لوائح الإرهاب، وإلغاء ما يتعلّق بالجائزة المخصصة للقبض على أحمد الشرع بصفته “إرهابياً”. أعطى هذا مؤشّراتٍ للجميع بأن المكاسب الكبيرة للغاية التي تحققت بإسقاط النظام، لا ينبغي تفويتها، بل يجب تثبيتها، والتريّث في التعامل مع القادة الجدد.
لا يتعلّق المكسب بإيران، بل بالوجود الروسي في سورية، خسارة روسيا الكبيرة في سورية، تجعل سورية في فضاء حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وذلك أن حلفاء القادة الجدد هم تركيا والولايات المتحدة، ودول مرتبطة بهما، وإذا كنا نريد أن نرى الصورة الكبيرة أكثر، فإن سورية فعلياً صارت جزءاً من المجال الحيوي لحلف الناتو، وبقدر ما يجلب ذلك من مصالح ويساهم في بناء جيش احترافي على أسس سليمة، بدل الجيش الطائفي المتهالك في البنية والعتاد، فما من شكّ بأن الجيش السوري حالياً سيتأثّر بهذا الوضع الجديد في البنية والتسليح أيضاً، ثمّة خطر أن يفقد السوريون التوازن، وأن تقلّ قدرتهم على القرار المستقل عسكرياً. ما جرى في سورية يقود إلى أن إعادة بناء الجيش وليس إعادة هيكلته هو ما يجب أن يتم. الحقيقة أن الجيش انتهى، ودُمِّرت آلته العسكرية. كان عماد الجيش ضبّاطا معظمهم علويون موالون (وهذه حقيقة أقرّتها البحوث والدراسات عن سورية وليست توصيفاً طائفياً)، وكان صفّ الضباط متطوعين، ومن تبقّى منهم حتى عام 2024 مشاركين في الجرائم، وخصوصاً القيادات الميدانية، ولم يكن ممكناً أن يحاربوا. لذلك اختفى جميعهم مع انهيار النظام، ولم يعد ثمّة طريق سوى إعادة بناء الجيش من مقاتلي الفصائل بصفتهم أفراداً، من خلال عسكريين منشقّين وخبرات للدول الصديقة. سيكون بناء الجيش وأجهزة الأمن من جديد على أسس سليمة هو الضمان لاستقرار البلاد والانشغال بالإعمار من دون الغرق في حروب الآخرين.
علينا مراقبة ارتدادات ما جرى (ويجري) في سورية، إذ ستكون الدول العربية أمام تغيّرات أولها إصلاحات سياسية حقيقية تعزّز التحوّل الديمقراطي
أصبحت حركة قطار الشرع سريعة في الأيام التالية، بدأت الوفود الغربية بالوصول إلى دمشق للقاء القادة الجدد، الفرنسيين أولاً والبريطانيين والألمان، ثمّ الأميركيين والأتراك، وأخيراً بدأت الدول العربية تركب عربات القطار قبل أن يفوتها وتصبح مقاعدها مشغولة. يتعيّن علينا مراقبة ارتدادات ما جرى (ويجري) في سورية، إذ ستكون الدول العربية أمام خمسة تغيّرات: الأول إصلاحات سياسية حقيقية تعزّز التحوّل الديمقراطي، تلاقي الاندفاعة السياسية للشباب التي قد تتولد صدىً للحدث السوري، ولن يكون بالإمكان بعد الآن الحفاظ على إصلاحات شكلية ومحدودة تُبقِي الأمل مغلقاً. الثاني، مراجعة الموقف من الإسلام السياسي، واتخاذ موقف أكثر مرونة وعقلانية لاحتوائه. الثالث، دوران عجلة التنمية دوراناً رئيساً في المحور السوري الأردني السعودي. الرابع، تحوّل سياسي في لبنان والعراق، يبدأ من إعادة صياغة العقد الاجتماعي اللبناني (أو مواجهة انتفاضة لا تزال ذكراها قريبة في لبنان)، وتفكيك الحشد الشعبي إذ لم يعد له عمل. الخامس، اندثار التنظيمات العنيفة القائمة على المظلومية السنّية، وفي رأسها “داعش”، على الأقلّ في بلاد الشام والجزيرة، خصوصاً أن القيادة العسكرية في سورية قادرة على تفكيكها ولديها خصومة دامية وخبرة بشبكاتها الجهادية، وسبق أن قضت عليها في جميع المناطق التي سيطرت عليها سابقاً.
سيتعين على إيران أكبر الخاسرين التكيّف مع الوضع الجديد، وإعادة تعريف علاقتها بالمجال الحيوي (العراق ودول الخليج)، وإسقاط سورية ولبنان من حساباتها، وتخفيف طموحاتها النووية، بما يسمح بعقد اتفاق مع الولايات المتحدة يتيح لها انفراجاً اقتصادياً يعيد لها القدرة على التنمية والتخفيف من النقمة لدى الشعب الإيراني، ولعلّ أكبر ارتداد سياسي محتمل سيضرب إيران، بالنظر إلى أن النظام الإيراني الذي يعاني من مجموعات أزمات، فضلاً عن انتفاضة مستمرّة لم ترقَ إلى ثورة بعد، لكن احتمال تحوّلها ثورةً كبير، سواء قامت طهران بإصلاحات سياسية أم لا.
بالمجمل، التغيرات الكبيرة بدأت، وهي تغيرات سريعة وخاطفة تدخل بها المنطقة عصراً جديداً بعد نحو عقد ونصف العقد من أكثر الحقبات سوداوية في المنطقة.
قطار التغيير انطلق… مرحباً بكم في شرق أوسط جديد كما لم نتخيّله.
المصدر: العربي الجديد