هل سنخسر هذه الثورة التي حرّرتنا، بعدما يئسنا وفقدنا الأمل؟ لم نتمكّن طوال سنوات حتّى من أن نحلم بها، وكأنها أُعطية أشبه بـ المعجزة الخارقة. كانت بعد بحر من الدماء والسجون والضحايا والمقابر الجماعية. وهذه التكلفة الهائلة لا تقلّ عن مليون شهيد، وما يقارب نصف الشعب السوري مشرّد في بُلدان العالم.
لماذا لا نُفكّر بمسؤولية تجعلنا نحافظ عليها لا أن نهدرها، ولقاء ماذا؟ مخاوف تُفتعل، لم يظهر بعد ما يؤيّدها، يُروَّج لها على أنّها من “بُعد النظر”، واستباق جميع الأخطار المحتملة والتشكيك بأنّ الثورة تعمل على إقامة دكتاتورية إسلامية، ولا عجب أن يُروَّج هذا القول، لكن ماذا لو كانت دولة إسلامية غير دكتاتورية؟ وأيضاً، لن نستبدل دكتاتوراً مجرماً بآخر، ماذا لو كان دكتاتوراً غير مجرم؟ هذه الاتهامات التنبُّؤية وما يُشابهها من هراء، ومثلها الإجابات أيضاً. كذلك كثرة الكلام حول إمارة إسلامية ستقع سورية في حبائلها، وغيرها، هستيريا من الانتقادات تُحاول تشويه ما حصل. أمّا لماذا هذا الهراء، فلأنّها لم تُوضع على محكّ هذا الواقع المعقّد، فلا نزيده تعقيداً.
السوريون بلغوا سنّ الرُّشد، تحت وطأة اثني عشر عاماً من الموت اليومي.
هذه التنظيرات تأتي بعدما تخلّصت سورية من نظام كان يريد تحويل جمهورية إلى مملكة وراثية، هل يطاولها الغفران إذا كان النظام يدّعي العلمانية، بينما ينهب سورية؟ إذا كان هناك من يحنّ إليها، فهُم قلّة مهما تكاثروا، استثمروا طويلاً في الكارثة السورية. يُستحسن الاعتياد على الحرّية، لا الاستهانة بها، افتقدناها طوال كابوس كاد أن يكون أبدياً، من الذي حقّق هذا الانتصار؟ أولادنا الذين نزحوا وهُجّروا بـ”الباصات الخُضر”، عادوا إلينا وحرّرونا، نحن أهاليهم.
هذا ليس خطاباً عاطفيّاً، لكن من الذي لا تُعاوده هذه المشاعر دفاعاً عن الحرية. لسنا في وارد المبالغة، ندرك أنّ “هيئة تحرير الشام” اختطفت ظرفاً عالمياً، يشهد عليه الضعف الذي أصاب حزب الله، واضطرار إيران إلى الخروج، وعدم تدخّل روسيا والتمهيد لانسحابها، وانحلال الجيش، وهروب أحقر دكتاتور في العالَم. ولا ريب في أنّ أكبر نجاح للهيئة تجلّى في منعها الانجرار صوب سيناريو الانتقام الطائفي، مع أنّ كثيراً من الجهات كانت تتوقّع حدوثه. لماذا لم يحدث؟ حتى الذين زُعم أنّهم موالون للنظام كانوا مضطرّين للصمت، فكانت الثورة ثورة السوريّين جميعاً.
الانتصار السريع للثورة شجّع على الاستهتار بها، وكأنّها ضربة حظّ، لم تُكلّف شيئاً، حتى أنّ هناك من تكلّم عن أنّ نجاحها كان مؤامرة على السوريّين ليظفر الإسلاميون بالحُكم، أمّا يساريّو أزمنةٍ سلَفت، فاستعادوا صلابتهم اليسارية حسب معايير لم تظفر بها أحزاب الرفاق في أوروبا. لم تقلّ انتقاداتهم عن إصلاح ما يزيد عن نصف قرن من الجرائم والخراب والفساد، بينما الثورة في أيامها الأُولى. متحفّزين لاصطياد الأخطاء والهفوات، وإذا لم يجدوها اختلقوها، طابور من الذين لا يرضيهم إلّا تحقيق ما يطالبون به خلال أيام، إن لم تكن ساعات، هل تُمكن علمنة الدولة فوراً؟
حملةٌ انضمّ إليها رجال ونساء من فلول نظام الأسد. ليْتَهُم أوّلاً يغسلون أيديهم من دمائنا. ربّما تمكّنوا من تفسير إجراءات الهيئة من دون ضغينة، ولا على المحمل الأسوأ، والتشبُّث بالشائعات والعمل على تسويقها. القسم الأكبر منهم، النقد بالنسبة إليهم سخرية وترويح عن النفس، أحوال البلد المقلقة تُشكّل متنفّساً لهم في إثبات ثقافاتهم المختلسة.
هناك حراك سياسي لم يفتر في الداخل، عسى أن يرقى إلى الإيمان بسورية موحّدة، وبالمقابل على وسائل التواصل ثرثرة حول المخاوف من الإسلام، وكأنّ الديمقراطية والعلمانية أديان بديلة، مع أنّهم أنفسهم كانوا يصرّون على أنّ شعبنا قاصر عن الديمقراطية، فما البال بالتنعّم بها؟ ويحوّلون العلمانية إلى وصاية مقيتة على البشر، ومحاكم تفتيش، لا علاقة لها بالفضاء الروحي للإنسان.
إذا كان من جدوى لهؤلاء الذين لا يعترفون بهذا الإنجاز العظيم، فلن يكون أقلّ من مراجعة مفردات أيديولوجياتهم التي تواطأت مع نظام الأسد، والالتفات إلى ما يُساعد على المشاركة في تغيير واقع يُعاني من ثقل تركة نظام فاجر.
ليست سورية في خطر، رغم أنّ الأنظمة العربية غير مطمئنّة إلى الثورة، ولا توفّر حملاتها الإعلامية بالتحريض ضدّها، والميليشيات المذهبية توّاقة إلى العودة، والسبب جاهز: “حماية المراقد المقدَّسة”، مع ناقمين مسلّحين فقدوا امتيازاتهم، وعلى رأسها قدرتهم على القتل بلا مُساءلة. وروسيا تحتجز لديها الطاغية الهارب باعتباره ورقة رابحة، سيصبح أكثر طواعية ممّا كان عليه، بعد الدرس الذي تلقّاه… لن يضيروا الثورة، ولا عودة إلى الوراء، السوريّون تنسّموا عبير الحرّية.
نعم، سورية بحاجة إلى جميع السوريّين، وفي المبادرة إلى تشكيل أحزابهم جزء مهمّ من العمل على التغيير، وفي الاستعداد للانتخابات، ما يؤكّد بجلاء التداول السلمي للسُّلطة.
عاشت سورية زمناً طويلاً من الخداع والكذب والنفاق والرياء، زمن تسلّط فيه المجرمون والأوغاد والأنذال، ارتدّت علينا بالعذاب والموت. اليوم، استعدنا بلدنا، فلنُؤمن بأنّها حقيقة، وليكن هذا الزمن زمن الحقيقة.
المصدر: العربي الجديد