تُعتبر العدالة الانتقالية خياراً هاماً بعد التغيير في الدول التسلطية، كما هي حالة سورية بعد سقوط سلطة آل الأسد، بحكم شدة الصراع المسلح، وما ألحقه من معاناة للسوريين، من جراء همجية أفعال المتصارعين، خاصة قوات وشبيحة النظام السوري وحلفائه الإيرانيين والروس. مما يستدعي تطبيق آليات العدالة الانتقالية الممكنة للوصول إلى مصالحة وطنية شاملة، ومعاقبة المجرمين، وتعويض الضحايا. إذ إنّ تجاوز مرحلة الاستبداد وإعادة السلم الأهلي ووحدة المجتمع يتطلبان ” تهيئة النفوس بردِّ المظالم وإعادة الحقوق لأصحابها، والتعويض على المتضررين، والكشف عن مصير المفقودين، وإظهار حقائق ما جرى، وتحديد المسؤوليات، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات والجرائم ” (1).
إنّ أغلب الدول التي توخّت المصالحة الوطنية، بعد الثورات، فازت بالأمن والعدالة والتنمية. أما التي انزلقت في طريق العنف والتطرف والاستئصال فقد دفعت أثماناً باهظة، وظلت مغلولة بالخوف والإرهاب والتخلف. ولكنّ المصالحة الوطنية، في أغلب الحالات، ارتبطت بالعدالة الانتقالية وليست الانتقامية.
في سورية، لا شك أنّ عملية التحوّل الديمقراطي تكتنفها صعوبات عديدة: البنية المعقّدة لسورية في محيطها الإقليمي، والتعدد الطائفي والإثني داخل المجتمع. ومع وجود مبادئ دولية عامة للعدالة الانتقالية، فإنّ أشكال هذه العدالة تتنوع، حسب خصوصيات سورية، وطبيعة الصراعات والمشاكل القائمة فيها منذ نصف قرن، بهدف الوصول إلى عملية بناء النظام السياسي الجديد، الذي يتسع لجميع الأطراف السياسية والمكوّنات الاجتماعية.
لقد مرت الكثير من المجتمعات بما مرت به سورية، سيما في أفريقيا وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية ودول عربية، لكنها استطاعت أن تفتح صفحة جديدة، قائمة على الحقيقة والمحاسبة والعدالة، ومن ثم المصالحة، عن طريق العدالة الانتقالية، باعتبارها ” آلية لتجاوز إكراهات الماضي “، وأهميتها في ” تعبيد الطريق نحو الديمقراطية بأقل تكلفة “، وقدرتها على ” تحصين المجتمعات ضد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والتجارب القاسية للاستبداد ” (2). والعودة إلى الماضي تستهدف ” استحضار آلامه ومآسيه أمام الرأي العام بكل صدق وشفافية، من أجل السعي لتجاوزها في المستقبل (3).
إذ يصعب نجاح عملية التحوّل الديمقراطي، وإقامة دولة الحق والقانون، التي تحقق السلم والعيش المشترك بين كل المكوّنات الاجتماعية، وتساعد على تجاوز حالة الانتقام والإقصاء والعداء، بعيداً عن خيار تحقيق مصالحة وطنية شاملة، تحت عنوان ” العدالة التصالحية “. حيث قام هذا الخيار، انطلاقاً من اعتبارات البراغماتية السياسية، على أساس التخلّي عن العدالة العقابية، أو تأجيلها في حق المتهمين بها من المسؤولين في النظام السلطوي، وتعويضها بتدابير بديلة، كما في النموذج المغربي، تمثلت في ” معرفة حقيقة الجرائم وتوثيقها وعرضها على العموم، وتقديم أشكال متنوعة من جبر الضرر المادي والرمزي للضحايا، والحفاظ على ذاكرتهم الأليمة، والالتزام بعدم تكرار الانتهاكات، وبترسيخ الديمقراطية ” (4).
ومن المؤكد أنّ تجارب الانتقال الديمقراطي الناجحة، في أوروبا وأميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا، إضافة إلى تجربتي المغرب وتونس، وكذلك استنتاجات التقارير السنوية للمركز الدولي للعدالة الانتقالية (5)، سوف تساعدنا في مقاربتنا لمرتكزات العدالة الانتقالية في سورية بعد التغيير.
أهم انتهاكات حقوق الإنسان خلال سنوات الثورة السورية
انتهاكات حقوق الإنسان في سورية كثيرة ومتنوعة، وقد امتدت لفترة زمنية طويلة بلغت أكثر من خمسة عقود، وكان أبرزها جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي ارتكبتها قوات النظام السوري وشبيحته خلال سنوات الثورة السورية (2011 – 2024)، الأمر الذي يجعل مسألة البحث في أقوم المسالك للتعامل مع إرث الماضي مطلوباً، بل هو حاجة ماسّة، خصوصاً بعد أن أصبح مطروحاً على بساط البحث اليوم، سواء من قبل الضحايا وأسرهم أو من مكوّنات المجتمع المدني، أو الأحزاب والقوى السياسية.
لقد لجأ النظام السوري إلى استخدام القوة المفرطة لقمع ثورة السوريين السلمية، وارتكبت قوات الجيش والأجهزة الأمنية انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وصلت إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية. وتفاقمت الأوضاع من جرّاء ازدياد حدة العنف واتساع نطاقه، وتحولت منذ شباط/فبراير 2012 إلى نزاع مسلح، ومن ثم إلى حرب بالإنابة لمصلحة قوى محلية وإقليمية ودولية متناحرة.
إذ لا يكاد هناك منزل في سورية إلا لحقت بساكنيه أضرار مادية ومعنوية بالغة بهذا الشكل أو ذاك، ولا تكاد توجد عائلة في سورية، سواء أكانت موالية للنظام أم معارضة له، إلا أصابها مكروه، منها من فقد ابناً أو ابنة ًأو أباً أو أماً، ومنهم من أُصيب أحد أفرادها بإعاقة، والكثير الكثير من العائلات من اعتُقل أو اختُطف أحد أبنائها ولم تعرف مصيره بعد، وكم من العائلات أيضاً مازالت تبحث عن جثث أبنائها الذين قُتلوا في المعارك أو تحت التعذيب في معتقلات النظام ومعارضيه من الميليشيات المسلحة، وعائلات أُبيدت عن بكرة أبيها في هذه المقتلة السورية. ويضاف إلى ذلك عائلات تهدمت بيوتها وفقدت كل ما تملكه، وهُجِّرت عنوة من بيوتها ومناطقها.
وكانت المفوضية السامية لحقوق الإنسان قد ذكرت في مطالعتها لمجلس الأمن الدولي، في أواخر سنة 2013، أنّ عدد الضحايا ارتفع من ألف شهرياً مع بداية الثورة، بسبب استخدام الأجهزة الأمنية المكثف لإطلاق النار على المتظاهرين السلميين، إلى خمسة آلاف شهرياً بسبب استخدام النظام السوري لسلاح الطيران والأسلحة الثقيلة، كراجمات الصواريخ والقنابل الفراغية والعنقودية والبراميل المتفجرة.
لقد ازدادت وتيرة الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري، خلال سنوات الثورة السورية، إذ وثّقت اللجنة الدولية المستقلة، المعنية بسورية، النمط الواسع النطاق والمنهجي الذي يتمثل في توقيف القوات الأمنية التابعة للنظام، أو الميليشيات العاملة معها، الرجال فوق سن 15 سنة واحتجازهم تعسفياً، في سياق الاعتقالات الجماعية في نقاط التفتيش التي كانت منتشرة في المدن والمناطق السورية، أو أثناء تفتيش البيوت. وفي أحيان كثيرة كان المحتجزون يتعرضون للضرب، بعد أخذهم إلى مراكز الاحتجاز، وهُلك كثيرون منهم بسبب التعذيب، أو ظروف الاعتقال اللاإنسانية، أو الافتقار للمساعدة الطبية الكافية، أو الإهمال المتعمّد.
ويعتبر ما قامت به أجهزة النظام السوري فريدة من نوعها، ولكن ” ليس غريباً على نظام حكم البلاد والعباد بالحديد والنار نحو خمسة عقود، نظام عُرف بالمحاكم الاستثنائية التي لا يمكن اعتبارها إلا أداة طيّعة في يد هذا النظام، لتصفية خصومه السياسيين، والخارجين عن حظيرة الطاعة، كما عُرف بإطلاق يد الفروع الأمنية وسياطها على أنفاس الناس وحيواتهم، من دون أية رقابة قانونية ” (6).
ومن الرسائل المعبّرة عن حجم معاناة السوريين تلك الرسالة التي تصف شوق أم لسماع أي خبر عن ابنها المفقود منذ ثمانينيات القرن الماضي ” يتذكرونهم عند إشراقة كل شمس، وفي راحة الوسادة التي تتكئ على أسرّتهم الباردة، وقمصانهم التي لا تزال موضّبة على ثنيتها في الخزانة منذ أعوام، ويحلمون كل ليلة بلقائهم، وعلى الرغم من مرور ثلاثة عقود، بسنينها الطويلة، إلا أنهم ما زالوا ينتظرونهم، ويتخيلون لحظة لقائهم الأسطورية، ويتأهبون لها دون جدوى، ويهرعون إلى كل سجين أُعيدت له الحرية يتقصون أخبارهم ويرجعون بالخيبة ” (7).
اقد اكتشف العالم هول المأساة التي حلّت بالسوريين بعد فتح سجون الطاغية بعد التغيير ” مئات الآلاف من القتلى وملايين اللاجئين، ودمار هائل في الممتلكات والأرواح، ومئات الآلاف من المفقودين والمختفين قسرياً. سنسمع صرخات المواطنين السوريين الغاضبة ممن فقدوا أقاربهم، تطالب بالكشف عن مصير أبنائهم المفقودين، وسنرى آخرين يطالبون بالتعويض عمّا لحقهم من أضرار مادية ومعنوية جسيمة، وسنسمع أيضاً صرخات أخرى تطالب بالانتقام والاقتصاص من الذين تسببوا في معاناتهم ” (8).
ومهما كان الوقت أو الكيفية التي ستحدث بها عملية الانتقال السياسي التشاركي، ستكون سورية في مواجهة تركتين (9): أولاهما، التاريخ الطويل من الانتهاكات، التي ترجع جذوره إلى استحواذ حزب البعث على السلطة في آذار/مارس 1963، خاصة بعد انقلاب حافظ الأسد في تشرين الثاني/نوفمبر 1970. وثانيتهما، الفظاعات التي ارتُكبت أثناء الثورة، التي بدأت في آذار/مارس 2011.
ويعتبر موضوع الإفلات من العقاب لمرتكبي جرائم الاختفاء القسري أو التعذيب أو كل انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة، أحد قضايا تجارب الانتقال الديمقراطي، خصوصًا تلك التي حدثت بانتهاء نزاعات مسلحة.
الهوامش
1 – أنور البني، ” سورية الجديدة ومسألة العدالة الانتقالية “، صحيفة الحياة، لندن: 22 كانون الأول/ديسمبر2012.
2 – إدريس لكريني، العدالة الانتقالية وأثرها في التحوّل الديمقراطي: مقاربة لنماذج عالمية في ضوء الحراك العربي، في إدريس لكريني وآخرون، أطوار التاريخ الانتقالي: مآل الثورات العربية (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تشرين الثاني/نوفمبر 2015)، ص 502 – 503.
3 – إدريس لكريني، المرجع السابق، ص 515.
4 – عبد الحي مؤذن، العدالة الانتقالية والسلطوية المُلبرلَة: نموذج المغرب، في محمد جبرون وآخرون، ما العدالة؟: معالجات في السياق العربي، (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، حزيران/يونيو 2014)، ص 401 – 402.
5 – منظّمة دولية غير حكومية متخصّصة في مجال العدالة الانتقالية، تأسست في عام 2001، تعمل على مساعدة المجتمعات، التي تمرّ بالمرحلة الانتقالية، في معالجة إرث الماضي من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وعلى بناء الثقة المدنية في مؤسسات الدولة كحامية لحقوق الإنسان. وتساعد المؤسسات ومنظمات المجتمع المدني على النظر في التدابير التي تسمح بالتوصّل إلى الحقيقة والمحاسبة وجبر الضرر عن انتهاكات الماضي، من خلال تأمين المساعدة الفنية والمعرفة المتعلقة بتجارب مقارنة ذات صلة في مجال العدالة الانتقالية في شتّى أنحاء العالم.
6 – رياض علي، ” قوائم الموت في النظام السوري: التجاوز الممنهج للقانون “، العربي الجديد، 2 كانون الثاني/يناير 2019.
7 – تحرير رضوان زيادة، سنوات الخوف: الحقيقة والعدالة في قضية المختفين قسرياً في سورية، (مشروع العدالة الانتقالية في العالم العربي، د. م، 2005)، ص 11.
8 – ميشيل شماس، ” العدالة الانتقالية مدخلا للسوريين “، إسطنبول، جيرون الإلكترونية، 12 كانون الأول/ديسمبر 2018.
9 – مشروع اليوم التالي، دعم الانتقال الديمقراطي للسلطة في سورية، سنة 2012، (منظمة سورية غير حكومية أُنشئت في عام 2012)، ص 35.