بدأت في مدينة كوبلنتز الألمانية أول أمس الخميس 23_ 04_ 2020 محاكمة إثنين من ضباط أمن النظام المنشقين، كانوا قد وصلوا إلى ألمانيا كلاجئين، وتكتسب هذه المحاكمة أهميتها لأنها أول محاكمة من نوعها لعناصر سابقين من الاستخبارات السورية مارسوا أعمال الاعتقال والتعذيب والتنكيل بحق مواطنين سوريين أبرياء، مما أدى الى قتل أو وفاة بعضهم في الفترة الواقعة بين نيسان/ أبريل 2011 وأيلول/ سبتمبر 2012، أي بعد انطلاقة الثورة الشعبية المباركة، وعلى خلفية مشاركاتهم في المظاهرات والنشاطات المطالبة باسترداد الحقوق المسلوبة للشعب السوري وكرامته المهدورة.
المتهمان اللذان يمثلان أمام القضاء الألماني أحدهما (العقيد أنور رسلان) رئيس قسم التحقيق في الفرع 251، أو ما يعرف باسم فرع الخطيب، المتهم باعتقال وتعذيب حوالي 4000 معتقل، والتسبب بموت 58 منهم، وحالتي اغتصاب واعتداء جنسي، والمذكور ليس إلا واحدا من مئات، بل آلاف ممن ارتكبوا مثل هذه الأفعال، وأكثر مما نسب إليه بكثير، والتي يجب أن تطالهم يد العدالة، يوما ما، طال الزمن أم قصر.
القضية التي يتابعها الملايين من السوريين، وغيرهم من المهتمين بقضايا العدالة، وحقوق الإنسان، تستوجب الوقوف عند بعض جوانبها وملابساتها، وما يحيط بها.
أولاً_ إن هذه الجرائم، بإجماع القانونيين، لا تسقط بالتقادم، والمسؤولية عنها لا تسقط بمجرد انشقاق العنصر الفاعل، والتوقف عن اقترافها، والندم عليها، أو بنتيجة تغير موقفهم السياسي، كما صرح بذلك المحامي أنور البني، أحد الحقوقيين السوريين الذين كان لهم دور في ملاحقة هؤلاء القتلة والمجرمين، ما يعني أن انشقاقهم عن النظام لا يعفيهم أبدًا من المسؤولية عما ارتكبوه، ولا يعطيهم صك براءة عن أفعالهم الجرمية المنسوبة إليهم، وما اقترفوه من فظائع.
ثانياً_ إن الوصول الى هذه المحاكمة سبقته جهود جبارة ومنسقة بذلها حقوقيون ومحامون سوريون على مدى أعوام بشكل مستقل وبدون دعم من دول ولا منظمات دولية كبيرة، وهي تمثل تطورًا نوعيًا كبيرًا في نشاط ونضال الحقوقيين المعارضين السوريين على الصعيد العالمي.
ثالثًا- إن المحاكمة التي بدأت بتوجيه الاتهام هي نتاج تحقيقات قام بها المدعي الألماني منذ عام 2018، تتوفر فيها كافة الضمانات الحقوقية المطلوبة، وتقوم على شهادة شهود ودلائل دامغة، ولا يمكن الشك ولو للحظة بعدم نزاهة وحيادية القضاء الألماني واستقلاليته، والأوربي عمومًا، بمثل هكذا قضايا وملفات، بالرغم مما يمكن تسجيله من ملاحظات على الموقف السياسي الأوربي، من معاناة الشعب السوري، وقضيته العادلة.
رابعًا_ هذه السابقة المهمة تثبت وتؤكد أن يد العدالة يمكن أن تطال كل من شارك في هذه النوع من الجرائم والانتهاكات الوحشية لحقوق الانسان، في الدول الأوربية التي هربوا إليها، وسجلت دعاوى بحقهم في أكثر من دولة، ما يعطي الأمل للضحايا وذويهم في القصاص العادل، مهما حاولوا التستر على جرائمهم، والتذرع بحجج واهية للنجاة من العقاب، عملاً بالقاعدة الأزلية الإلهية والوضعية (لكل جريمة عقاب)، و(ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب).
خامساً_ عموم السوريين يتوقون للحظة العدالة التي يرون فيها قاتلهم والمسؤول الأول عن مأساتهم، ومعه عصابته المارقة، ممن ساموا الشعب السوري كل أشكال العذاب، وصنوفه، خلف القضبان، وفي محكمة عادلة على أرض سورية، تتوفر فيها كافة الشروط الحقوقية، في الشكل والمضمون، ووفق المعايير الدولية ولسان حالهم يقول إن الثورة انتصرت، والانتقام للضحايا قد تحقق بفضل تضحياتهم ودمائهم الزكية.
لا شك أن الأمر سيحزن السوريين كثيرًا لو استطاع طاغيتهم، بتسوية دولية ما، أن يفر من قبضة العدالة ويبقى العقاب والقصاص مقتصرًا على بعض أعوانه من حوله، ومن ساندوه، في توحشه وطغيانه الموروث دون أن ينال ما يستحق على كل ما فعله.
سادساً_ إن العدالة الانتقالية، كمطلب واستحقاق لابد منه في سياق الحل السياسي في سورية، بصورة عادلة متجردة عن العصبيات والعوامل الطائفية والمذهبية والعرقية، وغيرها من النزعات التي ظهرت وطغت في ظروف الحرب والتي تشذ عن قواعد العدالة العصرية، وعبثت بحياتنا ومستقبلنا، ولذلك لا بد من تطبيق العدالة على مفاهيم الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والقانون الدولي، وتعويض المتضررين. ذلك لأن العدالة بلا شك، ممر إجباري للسلم والوئام الاجتماعيين، وبعيدة كل البعد عن روح التشفي والثأر والانتقام.
بغض النظر عما ستسفر عنه المحاكمة التي بدأت قبل يومين ونتائجها المنتظرة، ومن ستبدأ محاكمتهم في عواصم أوربية أخرى فإن مما يؤسف له أن آلافًا من هذه الجرائم والملفات قد يتعذر التحقيق فيها، وإحالتها للقضاء، والفصل فيها، ولا سيما الجرائم التي تورطت فيها واقترفتها أطراف إقليمية ودولية بمبررات ومزاعم سياسية ودينية.
يبقى الأمل معقود على إرادة السوريين، ونضالهم، لنيل حقوقهم، وأن يرى العالم مأساتهم، وما حل بهم بعد أكثر من تسعة سنوات من التقاعس والتواطؤ، شمل المعارضة، والناطقين باسم الشعب السوري، والعديد من منظمات حقوق الإنسان العالمية. للباطل جولة وللحق جولات.