هي نهاية حقبة إذن، ونهاية مشروع استنزف نفسه والمنطقة أكثر من 40 عاماً، بدأ مع مجيء الخميني إلى السلطة في إيران عام 1979، ويبدو أنه على وشك أن يتلاشى، فلم يكن سقوط نظام بشّار الأسد، الذي استمرّ أكثر من نصف قرن، إلّا إيذاناً بنهاية مشروع دشّنه حكم الخميني. مشروع أُريد له أن يكون منافساً لمشاريع أخرى في المنطقة، فتغلغل في جسد بلدان عربية مستغلّاً الظروف وغياب البدائل العربية، وها هو، على ما يبدو، يوشك أن ينتهي، من دون أن يحقّق لنفسه قبل غيره شيئاً كثيراً، اللهم سوى استمرار النظام الإيراني طوال هذه الفترة، ولو على حساب تطلّعات شعبه، الذي طالما أُسكِت بوهم هذا “المشروع”.
جاء سقوط النظام السوري مدوّياً، سقوط سُمع أوّل ما سُمع هناك في طهران، التي استثمرت في هذا النظام 44 عاماً، يوم أن قرّر حافظ الأسد الأب أن يناكف النظام العراقي السابق برئاسة صدّام حسين، وحزب البعث العراقي، عبر إيران، فقرّر أن يقف معها في حربها على العراق، فكان الداعم الأكثر أهميةً والأبرز من العرب للنظام الإيراني.
فرصة استغلّتها إيران جيّداً، فتمدّدت داخل الجسد السوري بهدوء، ودعمت نظام الأسد في وجه معارضيه، حتى إذا ما انتهت الحرب العراقية الإيرانية، كانت الثورة الإيرانية قد وجدت لنفسها موطئ قدم داخل الجسد السوري، مستغلّةً شعار تحرير فلسطين، الذي كانت تتغطَّى به، وتُغطّي به عورتها ومطامعها ومشاريعها في المنطقة.
خرجت إيران من سورية خالية الوفاض، فلم تتمكّن من الحفاظ لا على نفوذها ولا على النظام الذي وفّر لها هذا النفوذ
أكثر من 40 عاماً والنظام الإيراني يرفع شعار تحرير فلسطين، وطالما كان هذا الشعار البرّاق ستاراً للتوغّل في داخل أجساد أوطان عربية منهكة، بدءاً من لبنان، ثمّ سورية، حتى إذا ما أسقطت أميركا النظام العراقي السابق، وجدت طهران ضالّتها في الانتقام من غريمها القديم، العراق، لتدخل البلاد على ظهر دبابة “الشيطان الأكبر”، وما المانع إذا كان ذلك سيحقّق لها ما تريده! قبل أن تصل يدها إلى الحوثيين في اليمن، بعد تفجّر الثورة على نظام الرئيس الراحل علي عبد الله صالح.
وخلال أقلّ من عام، عقب اندلاع معركة طوفان الأقصى، خسرت إيران ما بنته طوال عقود أربعة، في لبنان ثمّ سورية، وفي سورية كانت الضربة الأقسى للنظام الإيراني. ولعلّ من يتابع الإعلام الإيراني يدرك جيّداً حجم الصدمة التي ما زالت طهران تعيشها، فقد تفجّرت الأسئلة الكُبرى عن جدوى هذا الاستثمار الفاشل، الذي أرهق ميزانية إيران، واستنزف كثيراً من دماء شبابها، والنتيجة أن إيران خرجت من سورية خالية الوفاض، فلم تتمكّن من الحفاظ لا على نفوذها ولا على النظام الذي وفّر لها هذا النفوذ.
تفجرت الأسئلة الصعبة في إيران بقوة. بدأت وسائل الإعلام الإيرانية، حتى الموالية للنظام، تطرح أسئلةً كثيرة، كيف سقط نظام الأسد؟ أين ذهبت المليشيات التي جنّدتها إيران عقدين؟ أين ذهب المستشارون الإيرانيون من قادة فيلق القدس والحرس الثوري؟ ما مصير المصانع الإيرانية؟ معسكرات التدريب؟ الأسلحة التي كدّسها الإيرانيون في سورية؟ أين ذهب الإيرانيون الذين قالت طهران لشعبها سنوات إنهم صاروا جزءاً من النسيج الاجتماعي، بعدما تملّكوا المنازل وحصلوا حتى على الجنسية السورية؟
أسئلة لن تجد لها إجاباتٍ من النظام الإيراني، الذي لم يجد ساستُه سوى الحديث عن خيانة تعرّض لها النظام السوري، أو خيانة تعرّضت لها إيران نفسها من ذلك النظام، أو اتهام دولة جارة لسورية (تركيا) بالوقوف وراء ما جرى، حتى وصلت التبريرات إلى رأس النظام المخلوع بشّار الأسد بأنه اختار عدم المواجهة والهرب، وغيرها تبريراتٌ كثيرة لا يبدو أنها ستجد آذاناً صاغيةً من الشعب الإيراني.
تستدعي المرحلة الجديدة جغرافية أصغر، ولا مكان فيها لخرائط كُبرى للدول
انهار المشروع الإيراني في المنطقة، فلم يعد له من عواصمه العربية الأربع التي كان يفاخر بأنها باتت تحت سيطرته ونفوذه، سوى بغداد وصنعاء، ولكلّ منهما حكاية مختلفة، ونهاية يبدو أنها باتت قريبةً، وإنْ بسيناريوهات مختلفة، لتنتهي حقبة التغلغل الإيراني، الذي أكل ما تبقّى من جسد العرب، بعدما أكل الجزء الآخر منه المشروع الصهيوني.
تشعر إيران بوطأة ما حدث في سورية، فهو إن شئت الدقّة، زلزال ضرب المنطقة، وتداعياته على ما يبدو لن تقتصر على الشرق الأوسط، بل سوف تمتدّ إلى مناطق أبعد، فأنت اليوم إزاء تغييرٍ ليس في رأس النظام فحسب، وإنما في فلسفة وجود الدولة السورية ككل، وفلسفة النظام الحاكم، وما يعنيه ذلك من نموذج قد يكون مغرياً إذا ما كُتب له النجاح، ليُستنسَخ في دول أخرى.
ستعني نهاية حقبة الأسد (من بين ما تعنيه) أن المشروع الإيراني يلفظ أنفاسه الأخيرة، والرسائل التي نقلها مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، العُماني محمّد الحسّان، إلى المرجع الشيعي الأعلى، علي السيستاني، تفيد بوضوح بأن دولة المليشيات في العراق، التي تُعتبَر واجهة النفوذ الإيراني الأكثر أهميةً، يجب أن تنتهي، فلا مكان لأذرع إيران في العراق، فإمّا أن يُتَّخذ القرار سلماً أو حرباً، إن استدعت الضرورة، والحاجة.
تتغيّر المنطقة، والضريبة الكُبرى قد تدفعها إيران، التي يبدو أنها لم تقنع بما نالته من نصيبها في كعكعَة تقسيم المنطقة عقب غزو العراق، فكان أن طلبت المزيد، ولم يكن هذا المزيد متوفّراً لدى صُنَّاع الخرائط في الشرق الأوسط الجديد، لتبدأ فصول نهاية المشروع الإيراني، نهاية لا يُراد لها أن تتوقّف بقصّ أجنحة النفوذ، وإنما تتعدّى ذلك إلى سقوط هذا النظام، فالمرحلة الجديدة تستدعي جغرافية أصغر، ولا مكان فيها لخرائط كُبرى للدول.
المصدر: العربي الجديد