يعيش اللبنانيون نشوة مزدوجة بعد سقوط نظام التطهير العرقي في سوريا، خصوصًا أن اللبنانيين أنفسهم خبروا الأسد الأب والابن في ذروة الغطاء الأميركي لهما، في أثناء سطوتهما في لبنان وسوريا، مقابل تقديم أدوار وظيفية في المنطقة على مدار أربعة عقود ونيف.
وليس سرًا أن العلاقة التاريخية التي كانت قائمة بين نظام حافظ الأسد والإدارات الأميركية المتعاقبة، جعلت الأسد الأب يلتزم بعدم تجاوز الخطوط الحمر الأميركية أياً تكن الظروف والاعتبارات. في المقابل، التزمت واشنطن بعدم تهديد حكم الأقلية العلوية لبلد الغالبية السنية.
ولا حاجة لتعداد العطايا التي قدمتها الإدارات الأميركية المتلاحقة للأسد الأب، مقابل قيامه بدور الشرطي في مناطق متعددة. وهكذا ردت واشنطن التحية لسوريا على مشاركتها في حملة عاصفة الصحراء بمنحها الدخول إلى لبنان والسيطرة على ملفاته. لكن مع رحيل الأب وتولي الابن مقاليد السلطة، كان من المنطقي أن تعيد واشنطن صياغة علاقتها بدمشق.
خصوصًا أن صقور إدارة جورج بوش كانوا يحضرون لاحتلال العراق لإعادة ترتيب المنطقة. وفي وقت التزمت إيران، الجار الشرقي للعراق، أقصى درجات الانضباط والحذر، فإن الجار الغربي، أي سوريا بقيادة رئيسها الشاب، شرع حدوده للمجموعات الراغبة في مقاتلة الأميركيين، ولم تكن بصمات إيران بعيدة عن ذلك.
لكن الردود على هذه الممارسات الأسدية تجلّت على الأرض اللبنانية، حيث اغتيل رفيق الحريري، الرجل الأول المنتمي للمدرسة العربية الحديثة المرتبطة بالغرب. وتبعت ذلك عقوبة بوش للأسد عبر إخراج القوات السورية من لبنان، إلا أن الفراغ السوري سرعان ما نجح حزب الله في ملئه عبر اضطرابات متنقلة.
أما النظام السوري المخلوع، فبدأ يخطو أولى خطواته في اتجاه عدم الاستقرار. وانفجر الشارع في وجه نظام بشار الأسد عام 2011. ويومها، وبخلاف الانطباع السائد، تركت واشنطن الدعم السياسي والعسكري للثورة لدول الخليج وفرنسا، فيما إدارة أوباما لم تتدخل بفاعلية، لاقتناعها بمخاطر إسقاط النظام الأقلوي العلوي.
وكانت إسرائيل تتمسك بهذه المعادلة بقوة. ويومها تم التداول بحلّ وسط يقضي بالحفاظ على استمرارية النظام، ولكن عبر استبدال بشار الأسد بآصف شوكت. لكن شوكت اغتيل بعد فترة قصيرة، وهو كان الوحيد المؤهل للاستمرار بالنظام في غياب آل الأسد، إذ لم يكن هناك بديل عن هذه المعادلة.
مع دخول سوريا مرحلة التدخلات الروسية والإيرانية، دخلت إيران بقوة، سواء مباشرة أو عبر حلفائها وتحديدًا حزب الله، وبدأت بالإمساك بمفاصل الدولة. وفي عام 2015، لم تعارض واشنطن دخول روسيا لإنقاذ النظام الذي كاد أن يهوي بعد أن فقد سيطرته على أغلب الأرض السورية. وكان الرهان الأميركي أن يؤدي الدخول الروسي إلى تحجيم واحتواء التمدد الإيراني الحاصل.
وقد أبدى بوتين موافقته على تحجيم إيران في سوريا، لكنه غير قادر على ذلك حاليًا لأن قواته الجوية تحتاج إلى المجموعات البرية الموالية لإيران. في الواقع، ازداد نفوذ إيران وحلفائها في سوريا، التي أضحت قاعدة إيرانية وممرًا مفتوحًا لتزويد حزب الله بالأسلحة، وشكلت موطئ قدم استراتيجيًا للحلم الإيراني بالوصول إلى الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط.
لكن الإدارة الأميركية بدأت منذ عام ونيف، وتحديدًا بعد “طوفان الأقصى”، في صياغة استراتيجية جديدة تحاكي صد التمدد الروسي واحتواء الحضور الصيني. وجدت واشنطن ضرورة إغلاق شواطئ البحر المتوسط أمام روسيا، والسيطرة على الشرق الأوسط لاحتواء الطموح الصيني.
هذا يعني استعادة النفوذ الأميركي على شاطئ لبنان وساحله، ووضع معادلة جديدة في لبنان وسوريا. وجاءت عملية “طوفان الأقصى” لتدفع باتجاه إعادة ترتيب المنطقة، والبحث في جدوى الإبقاء على خريطة المنطقة الحالية، وبالتالي التوجه نحو تأسيس خريطة جغرافية جديدة.
هذه المرة، كان ذلك إما عبر الدماء أو من خلال تغيير الوقائع بشكل متسارع. الأول تجلى في ضرب حزب الله ومشروعه في لبنان، وتحجيمه في العراق، أما الثاني فتمثل في تسارع الأحداث الميدانية في سوريا عبر التقاط المعارضة للفرصة وتشكيل غرفة العمليات المشتركة، وما أفضت إليه الأمور من إسقاط النظام الأسدي.
لكن الأهم أن إيران تلقت ضربة استراتيجية بخسارتها الممر والقاعدة الأهم، بعد ضربة موجعة تلقاها حزب الله باغتيال أمينه العام حسن نصر الله. ولا يخفف من وطأة هذه الخسارة التصريحات المرنة لمسؤوليها حول تأييدهم لترك الشعب السوري يختار قادته، أو إعلان طهران فتح قنوات تواصل مباشرة مع بعض الفصائل السورية المعارضة.
لكن هذا لا يلغي بعض الإشارات الإيرانية الموجهة إلى دول الغرب التي رافقت سقوط نظام الأسد. فقد باشرت طهران بسحب ضباطها ومستشاريها من سوريا يوم الجمعة، أي قبل سقوط دمشق بيومين. ثم ظهرت انتقادات للرئيس السوري واتهامات له بالتصلب والعناد، خصوصًا أن الأسد كان متردداً في تعاطيه مع إيران خلال الأشهر الماضية، حيث طالب بتقليص قواتها في سوريا، كما رفض الانخراط في معركة “طوفان الأقصى”.
لكن الحقيقة الماثلة أن الانزعاج الأميركي من بشار الأسد بلغ مستويات غير متوقعة بعد سماحه بإعادة تسليح حزب الله خلال الحرب. واكتشفت واشنطن لاحقًا أن إيران نجحت في إيصال أسلحة وصواريخ في ذروة الحرب، مما دفع الطائرات الإسرائيلية إلى قصف الحدود والمناطق البقاعية بشكل مكثف. ومع سقوط حلب، أرسلت واشنطن عبر طرف ثالث للأسد بضرورة إعلانه الابتعاد عن إيران والبدء بإصلاحات سياسية داخلية مع أطراف المعارضة، لتجنب سقوط دمشق.
لكن الوعد الذي أرسله الأسد عبر الإمارات لم يجد طريقه إلى التطبيق، وهنا تُطرح التساؤلات حول حقيقة الموقف الإيراني. فسقوط سوريا “الأسد” رسّخ ابتعاد إيران عن شاطئ المتوسط، لكنه ترافق مع تصريحات غريبة أطلقها نائب الرئيس محمد جواد ظريف، الذي أعطى فيها الأولوية للاقتصاد والانفتاح على الغرب، لا سيما واشنطن.
لكن الأهم هو انعكاسات هذه التطورات على لبنان وما قد يترجمه هذا السقوط المدوي للمحور في الملفات الداخلية اللبنانية، خاصة مع اقتراب الملف الرئاسي اللبناني من نهايته، وهو ما قد ينهي حقبة حلفاء الأسد ويقصيهم عن السلطة للأبد.
المصدر: تلفزيون سوريا