حملة البراميل المتفجرة على حلب التي يتفذها طاغية العصر منذ منتصف ك1/ ديسمبر انتهت الى إفلاس لم تحقق ما كان يرجوها , قتلت أكثر من 1100 شهيدا , بينهم 370 طفلا في اسابيع وأصابت نحو 2650 جريحا , ودمرت او اصابت نحو مائة بناية سكنية . الأمم المتحدة سبق أن أعلنت أن اكثر من نصف مباني المدينة لم يعد قابلا للسكنى . سعى المجرم لاستعادة المدينة قبل جنيف وتعهد لأربابه في موسكو تحقيق الوهم قبل العام الجديد, .
ما يقتل الحلبيين ليس براميل الموت والدمار وحسب بل نذالة التواطؤ الدولي أيضا على جرائم همجية لا تشكل عدوانا على مدينة عادية , بل عدوانا على الحضارة الانسانية كلها في أهم مراكزها الحية .. ترى هل يعلم بوتين ولافروف أو أوباما وكيري أو كاميرون أو حتى أولاند قيمة حلب التي دمرها الاسد بمنهجية ثابتة ..؟
لا أظن … لأن هؤلاء أقل مستوى من أن يعلموا مكانة حلب في التاريخ , وإلا لما سمحوا بتدميرها !
حلب أيها الجاهلون الذين يحكمون العالم هي الحضارة الانسانية الحية, هي ذاكرة العالم والتاريخ ,أرشيفه الهندسي ومعجم تطوره العمراني الموثق . ما من مدينة أخرى في العالم تتميز بهذه الميزة , لا أريحا الفلسطينية ولا القدس ولا دمشق ولا مكة ولا الاسكندرية ولا استانبول ولا أثينا ولا روما ولا سمرقند ولا شانجهاي ولا صنعاء . اليونسكو تعلم وذكرت الساسة بخجل أن حلب هي الأقدم في العالم , عمرها 12 الف سنة, اقدم من اريحا ب 1600 سنة, ومن دمشق ب 3000 سنة ومن الاسكندرية ب4300 سنة . كل لداتها اللواتي عاصرنها حقبا بادت بعد أن سادت : نينوى أوغاريت, بابل, أور, إيبلا ..إلخ الوحيدة من مدن العالم المعاصرالتي بدأت الحياة فيها منذ دب الانسان على الارض ثم لم تتوقف حتى اليوم هي حلب, [لكن الاسد يحاول إيقافها!!]
وحدها حلب تحتفظ في عمارتها بسلسلة منتظمة لكافة طرز البناء التي رافقت حركة التطور منذ الكهف الأول الى أحدث القصور بدون انقطاع . يعود الفضل في ذلك لعبقرية إنسانها أولا , وعبقرية حجارتها الفريدة ثانيا . وللحجارة والترابة الحلبية قصص شيقة قد نسردها يوما . وأين في غيرها تؤكل الحجارة كالفاكهة ؟! وأي مدينة أخرى تصدر(الحجارة) كما يصدر غيرها المعادن الثمينة تلبية لاقبال بلدان كثيرة على حجارتها التي لا تنافس في بناء القصور حتى باتت جبالها الرائعة مهددة بالنضوب؟!
في حي اسمه (التلة السودا) أو المغاير (جمع مغارة) حاليا بدأت حياة الانسان في حلب , وتوجد تحته مدينة مخفية يجزم علماء الآثار أنها تحوي أولى كهوف الانسان الأول , ولم يجر التنقيب عنها لوجودها تحت حي يقطنه نصف مليون . وفي حي (العقبة) بدأ بناء المساكن المسقوفة على الأرض قبل آلاف السنين , وبعضها قائم لم يتهدم رغم عاديات الزمن من حروب وكوارث وزلازل . وعلى مسافة قصيرة تتربع أعظم قلعة على وجه الأرض, بدأ الحلبيون بناءها في العصر الحثي وظلوا يطورونها عصرا بعد عصر . الحلبيون وحدهم من بين الامم بنوا (جبلا) حقيقيا بمقاييس خاصة ليشيدوا فوقه قلعة شاهقة لم يستطع أي غاز على مر التاريخ قهرها أو اقتحامها , ولكن جنود الأسد هبطوا عليها بالحوامات وتربعواعلى اسوارها موجهين مدافعهم نحو المدينة ليرجموها يوميا بالصواريخ ! ويعيثون فيها فسادا كما عاثوا في المسجد الأموي الذي( أنجزوا) تدمير نصفه حتى الآن , وهو توأم مسجد دمشق شيده سليمان بن عبد الملك شقيق الوليد الذي بنى الأول , وكان يحتوى زخارف وتحفا نفيسة سرقها ونقلها العباسيون الى العراق بعد انتصارهم على الأمويين, ويتابع مجاهدو (ابي الفضل العباس) العراقيون اليوم التخريب باسم حماية المقدسات , وكرمى لعيون (الإمام الصالح) بشار الاسد !.
أما أسواق حلب المسقوفة فتلك قصة أخرى بهندستها وروعتها الثقافية والبيئية واعجازها واحتفاظها باضاءة ودرجة حرارة ثابتة رغم تغير الفصول فقد حقق قرامطة العصر فيها ما عجزعنه المغول والفرس مرتين والبيزنطيون والصليبيون مرات من قتل وتدمير ! بل وما عجز عنه زلزالان قويان جدا في 1169 و 1822 .
في حلب أحياء تعود الى ما قبل الفي سنة كأنها بنيت قبل قرن واحد فقط كحي ( القصيلة ) , وأحياء ذات هندسة وبنية (دفاعية)فريدة ابتكرها الحلبيون لتحميهم من الغزاة, وما تزال هذه الاحياء حية ومزدهرة لليوم : حي (الجلوم) , حي (الفرافرة) , حي (السفاحية) , حي (بحسيتا) أعجزت أعتى الجيوش , لكن جيش الاسد اختصر العملية بتدميرها وابادتها بلا رحمة . واذا كان لا بد من تسجيل الحقيقة فمخطط إزالة هذه الاحياء بدأه الطاغية الاب بعد ثورة 1980 لأن مجنزراته وقواته الأمنية فشلت في اقتحامها فأعلن الحرب عليها رغم توسلات اليونسكو .
الحلبيون أعظم من اعتمد على حفر الانفاق والسراديب تحت الأرض , احياء المدينة مرتبطة بسراديب سرية تتصل بالقلعة للجوء اليها اثناء الغزوات. وللقلعة نفقان واسعان ضخمان يمتدان الى خارج المدينة يبلغ أحدهما حوالي 30 كم والثاني 15 كم . كانا يستعملان لاحضار الأغذية حين يحاصرها الاعداء لسنوات !.
عانت حلب من طبيعة جغرافية تفتقر لدفاعات طبيعية كالجبال والانهار والغابات , فعوضت ضعفها الطبيعي بابتكار وسائل هندسية في بنائها منذ الاف الاعوام ! وهم أول من شقوا قناة باطنية لجر المياه الى داخل المدينة طولها 13 كم من ينابيع (حيلان) .
في حلب يرقد خمسة أنبياء : زكريا , شمعون , كالب بن يوقنا , بنقوسا , نعمان عليهم السلام , وفيها عاش ابراهيم الخليل بعد هجرته من أور مباشرة , ولا يزال له فيها مقامان واحد في القلعة , وآخر في باب المقام , وتحتفظ المدينة بحجر عليه قدم الخليل , وجرن كان يحلب فيه بقرته (الشهباء) ليوزع الحليب على الفقراء , وفيها الصخرة التي جلس عليها ليودعها . وفي المدينة قبور وأضرحة مئات الأولياء والقديسين الصالحين عبر التاريخ , وفيها حجر يحمل كف الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم , وبعض شعرات من رأسه الشريفة . وفي مشهدها حجر عليه قطرات من دم الحسين , وقبر يضم جنينا كانت تحمل به زينب رضي الله عنهما, وفيها ضريح القديس مار مارون , وقبر أول وآخر امرأة ادعت النبوة وآمن بها الناس , وأول إمرأة تولت منصب الافتاء في التاريخ الاسلامي, وكان فيها أكبر عدد من الكتب والمكتبات القديمة مقارنة بأي مدينة في العالم الاسلامي . ويقال إن أرسطو الذي كان يرافق الاسكندر المقدوني طلب السماح له بالبقاء في حلب لاعجابه بها فوافق . وفيها كانت طفولة وشباب الفاتح الكبيرصلاح الدين الايوبي والظاهر بيبرس اعظم الملوك الأيوبيين . وفي عصرها المسيحي ضمت 70 هيكلا , وبعد فتح المسلمين لها انتشرت المساجد حتى فاقت 110 بنهاية العصر الاموي أي خلال مائة عام فقط . وفي حي (الصليبة ) دار عريقة تقطنها عائلة واحدة منذ الف عام وحتى اليوم
وكانت حلب إحدى أهم خمس مدن لليهود في العالم , وكان لهم عشرة أحياء في المدينة القديمة , ليس بينها غيتو واحد ! أهمها أحياء العقبة وبحسيتا والبندرة وباب قنسرين والجلوم . وحي الجميلية في الشطر الحديث , وجميع يهودها عرب ربطتهم أواصر جيدة ببقية الطوائف , وكان لهم دور سياسي في انشاء سوريا الحديثة بعد الاستقلال عن السلطنة العثمانية 1918 .
من أعظم بناة حلب في التاريخ وقادتها : حلب بن مهر العمليقي وبلوكوش الموصلي وسارغون الاكادي وبارليم ليم وجوستينيان الكبير وسيف الدولة الحمداني وعماد الدين الزنكي ونور الدين والملك العادل شقيق صلاح الدين الأيوبي .
أما أسوأ الطغاة والغزاة الذين حكموها أو دمروها أو احرقوها فمنهم : نارام سين الاكادي ومورسيل الحثي وكسرى انو شروان الاول الفارسي , ونقفور البيزنطي وتيمورلنك المغولي , وسيسجل التاريخ اسم (بشار) وأبيه حافظ وعمه رفعت واخيه ماهر على رأس هؤلاء جميعا لأنههم فاقوهم اجراما وقتلا وتدميرا واحراقا لكنز ومستودع الحضارة الانسانية , وأم المدن الحية في العالم كافة .
فهنيئا لهم بمقامهم الذي نالوه بجدارة !!
********************************************************
هذا المقال منشور في العدد 203 من مجلة الشراع اللبنانية الصادر في بيروت بتاريخ 3 / 1 / 2014 . ولذا وجب التنويه .