يأتي العيد على السوريين ومدنهم تُهدّم؛ وأرواحهم تُزهق، وهم يشردون داخل وطنهم وخارجه، وعشرات الآلاف معتقلون في غياهب السجون بانتظار أن يصل الفرح إلى قلوبهم ونفوسهم؛ فيكون للعيد معنى مختلف عما ألفوه، بعد أن افتقدوه ردحا طويلا من الزمن …
هو العيد الرابع في ظل الثورة التي يعيدون معها اكتشاف الأشياء، ويعطون للمناسبات معاني خلت من قبل، وهم يصنعون حاضرهم ومستقبلهم معمدا بالدم، بعد طول صبر استمدوه من الأساطير وقصص الأنبياء وملاحم التاريخ الكبرى في قصة الإنسان والخلق والوجود…
العيد؛ بمعناه الحقيقي، لم يذق طعمه السوريون منذ أن اغتصب الأسد الأب الحكم من الشعب، قبل أكثر من أربعة عقود؛ فهو في إطار ربط الحياة والمجتمع؛ بنظامه الغاشم؛ ناهيك عن الدولة والاقتصاد والسياسة حوّل الأعياد (الدينية والوطنية والاجتماعية) والمناسبات إلى جزء من منظموته القيمية والأخلاقية والسياسية، التي تبدأ معه وتنتهي به؛ بل حاول جاهدا أن يكون لمناسباته الذاتية والخاصة به؛الأهمية الكبرى التي تطغى على ما عداها؛ في حياتهم الخاصة والعامة. فأصبح لهم تقويهم الخاص وأيامهم التي يحق لهم فيها الفرح؛ كأنّه هبة أو عطاء يستحق مانحها الشكر والعرفان.
هكذا أصبح لحركته الانقلابية (16-11-1970) وثورة 8آذار1963؛ وتجديد (البيعة) احتفالاتها الكبرى التي تقام فيها (الأعراس الوطنية)؛ فتزدان الشوارع والساحات بالصور والأضواء الساطعة (في ظل تقنين كهربائي شبه دائم)، ويصدح المغنون؛ وينشد الشعراء، ويعطونه من الألقاب والصفات مايليق، فقط، بالذات الإلهية.
ولا تكتمل أعيادهم الدينية، وإحياء مناسباتهم العظيمة من دون لمسة من شخصه الكريم، أو من ينوب عنه. هكذا في عيد المولد النبوي وليلة القدر وعيدي الفطر والأضحى، ومع كل جمعة في خطب المساجد، وعيد الميلاد، وعيد القيامة….الخ؛ فيحييونه ويبجلونه ويدعون له بطول العمر والبقاء، كذبا ونفاقا ..وحتى مناساباتهم الاجتماعية كانت تتطلب الموافقات الأمنية(الأعراس مثلا).
ولعل الأدهى والأكثر مرارة أن العيد ببهجته وطقوسه أصبح مرتبطا به ارتباطا وثيقا؛ فإذا كان للعيد مشترياته الخاصة من الطعام والشراب والحلوى، وألبسته الجديدة للصغار قبل الكبار؛ فما كان لذلك أن يتم دون منحة(من الأب العطوف الحنون)أو صرف رواتب العاملين في قطاع الدولة بشكل مسبق، نظراً للضائقة الاقتصادية التي عاشوها، ونظرا لضنك العيش وقسوته وحرمان الغالبية العظمى من أبسط مقومات الحياة، التي صار معها تناول اللحوم(مثلا)؛أمنية عزيزة المنال لا يحظى بها الكثيرون؛ إلا من أضاحي العيد للمقتدرين مرة واحدة في العام، وليس في ذلك أي مبالغة، بل هي الحقيقة المرّة.
لا شك أبدا في أن نظام الأب والابن سرقا الفرح والبهجة من قلوب السوريين؛ فلم يعد العيد يعني لهم سوى أعباء إضافية مادية واجتماعية، والمزيد من حرج كبير يفتضح فيه حالهم العاسر أمام أطفالهم. وربما اضطر كثيرون للاقتراض ودخول دوامة الفساد المريعة تحت ضغط الحاجة ….!!!
العيد، بمعنى الفرح والبهجة والسرور وصفاء القلوب والتكافل الاجتماعي، ما كان له أن يطرق أبواب السوريين، وهم موزعون في بلاد المعمورة؛ إما بحثا عن لقمة عزيزة كريمة افتقدوها داخل وطنهم، أو بحثا عن فرصة أفضل تحسن ظروف حياتهم، ناهيك عن عشرات آلاف المطاردين والمطلوبين(للعدالة)من أصحاب قضايا الفكر والموقف والضمير، فضلا عن المعتقلين والمختفين، أو الغائبين.
اليوم؛ في ظل الثورة، وفي رحاب عيد الأضحى المبارك؛ ومعناه في قصة الذبح العظيم والفداء يجسد السوريون القصة بكل معانيها ومغازيها الكبيرة، من دون أن يفديهم أحد من أهل الأرض؛ فهم الأضحية التي لن يأكلوا منها أو يوزعوها على الفقراء والمحتاجين، متعلقين برجاء وأمل من السماء، ما انقطع أبدا ولو للحظة واحدة؛ وهم يقدمون القرابين من الشهداء، وكوكبة تلوى كوكبة، لأجل حريتهم وكرامتهم، وبانتظار عيدهم الكبير، الذي انتظروه طويلا. إنه عيد وطنهم وذاتهم، بعد أن دمر الاستبداد والفساد حياتهم.
وكما صادر النظام الدولة والمجتمع والحياة؛ صادر، أيضا، الفرح، وجعله لفئة مرتبطة به دون آخرين؛ وهي فئة ربطت مصالحها به فكانت أيامها ولياليها فرحا دائما وتخمة هائلة في ظل فساد معمم وتفاوت طبقي رهيب جعل السواد الأعظم منهم يعتبرون يوم عيدهم هو يوم يحققون بعض أحلامهم المتواضعة التي لا يكونون فيه جوعى، أو مرضى، أو عراة؛ أو يعيشون على حافة الرصيف، وهم يطلبون الغنى والستر من ربهم الكريم.
عيد يعود إليهم اليوم، بحكم قوانين الطبيعة وسنن الكون وتعاقب الشهور والأيام، لا يحمل معه إلا روح الإصرار على تحويل أيامهم القادمة إلى أعياد حقيقية تطال مكنونات النفس والجوارح، وتدخل كل البيوت من دون زيف أو ادّعاء … كل عام وعيدكم ثورة…وثورتكم في أضاحيها أكبر عيد.
المصدر: الأيام