مضى على حكم الرئيس بشار الأسد في سورية عشرون عاماً. قضى العشريّة الأولى في تحويل بنيّة الدولة لتصبح ليبراليةً في الاقتصاد، وتظلّ استبدادية في السياسة، ولصالح الفئات الطفيلية المرتبطة بالسلطة تاريخيّاً. العشريّة الثانية نتاج الأولى، حيث انهار الاقتصاد العام، وتلاشى الوعي الاشتراكي والقومي، وأصبحت بنى المجتمع طوائف وعشائر، وتقومن الأكراد، وتقلصت القيم الإيجابية. وأدّى هذا إلى بداية انفجارٍ اجتماعيٍّ كبيرٍ، تلا ثوراتٍ عربيّة، ومناخٍ إقليميٍّ، يفتح الأفق نحو تغييرٍ كبير في بنى الأنظمة، وتوجهاتها.
بعيداً عن الركاكة، وأيّ إصلاحٍ هو الأدقّ في سورية في عام 2000 وما بعده، حيث تمحور النقاش: أنبدأ بالاقتصادي أم الإداري أو السياسي، فإن النتيجة، وقد بُدِئ باللبرلة، كانت انهيار حياة الأغلبية. بعد 2011، انتصر الخيار الأمني، في مواجهة المجتمع، وضد فئاتٍ في السلطة، راغبةٍ بالتغيير، “خلية الأزمة” وسواها، وكما تبدى أخيرا عبر التضييق على التجار، ومن أثرى في سنوات الحرب، ووصل البلّ إلى الذقن، أي إلى رامي مخلوف، والذي، شُلِّح أغلبية مؤسّساته داخل سورية. وربما، ولولا حمايةٍ من روسيا لتمّت تصفيته، وهذا متروك للمستقبل، حيث أصبحت سورية، نظاماً ومعارضة، مرهونةً للدول الخارجية.
مكّنَ نفسه جيداً بشار الأسد، وعبر روسيا وإيران في العشرية الأخيرة، ولكن ذلك ليس نهاية المطاف؛ فالتسوية لم تبدأ بعد، والسيئ أن ضعف نظامه يجعله ورقةً بيد تلكما الدولتين، والدول ليست جمعيات خيرية في النهاية! وعالمياً وإقليمياً، هناك صراع جاد حول بقائه أو تغييره. وفي أفضل الأحوال نزع أغلب الصلاحيات منه، في حال اُتُفِقَ على تسويةٍ، تتضمن بقاءه.
لم يستثن فيروس كورونا سورية، وإذا واجهه النظام بحزمٍ في الشتاء، فإنّه رعى انتشاره في الصيف، كما يبدو. تكاثرت أعداد المصابين، ولم يعمد إلى أيّ حجرٍ أو حظر، وهذا ساهم في انتشاره في كل مدن سورية المحتلة، غرباً وشمالاً وشرقاً وجنوباً. أسباب كثيرة لموقفه الصيفي هذا؛ ربما يكون السبب معرفته بعدم قدرة الشعب على البقاء من دون عمل، حيث أوضاعهم الاقتصادية منهارة أو استيراد أجهزة طبية للكشف، وتخصيصها ببعض الطفيليين، وهذا سيشكل سيلا ماليا للأعوان وللسلطة. وربما يشكل انتشار الفيروس ورقة ضاغطة على الأمم المتحدة أو منظمة الصحة العالمية وسواهما، لتقديم المساعدات، المتعدّدة الأشكال، والنظام أحوج إليها. ما نعرفه جيداً أن الدول تسعى جاهدة لتطويق هذا الوباء، بينما الدولة السورية تتركه ينتشر، وبذلك يكتمل فشلها، حيث أصبح عاماً، والحمد لله.
على الرغم من هروب ملايين السوريين إلى الخارج، ووجود مئات آلاف في المخيمات، وتراجع مختلف أشكال الإنتاج، وانتشار فيروس كورونا، فقد أجرى النظام الانتخابات التشريعية في مجتمعه المتجانس، وبالتالي لم ينتخب قرابة نصف الشعب السوري فيها، ولم يحاول إشراكه بطريقةٍ ما، ورفضت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) أن تجري الانتخابات في الحسكة ودير الزور والرقة، وفي إدلب لم تجر كذلك، وأيضاً في المناطق التي تسيطر عليها تركيا؛ على الرغم من ذلك كله، تحدث موالون كثر عن الفساد في الانتخابات، وعدم شرعيتها! الانتخابات هذه ندّدت بها دول كثيرة، وبالكاد أبدت موسكو تعليقاً عليها، وهو بين رفضٍ وقبولٍ شكليٍّ فيها، حيث تُكرّر “ثرثرتها” بأنّه نظام شرعي، وعليه أن يُحدّثُ مؤسساته!
التحذيرات الإسرائيلية والأميركية من الاستمرار بالعلاقة مع إيران لم تتوقف منذ 2011. وعلى الرغم من ذلك وَقّعَ اتفاقا عسكريا شاملا مع إيران، وينص على إقامة نظام دفاع جوي إيراني. وهذا ما دفع إسرائيل إلى تصعيدٍ أكبر، شمل في الأسبوع الأخير مواقع عسكرية كثيرة، إيرانية وسورية. عدا التحذيرات، هناك ما يشبه الإجماع الدولي والإقليمي أن إيران يجب أن تخرج من سورية؛ يضاف إلى ذلك تطبيق قانون قيصر. هي عوامل عديدة إذاً، وتؤكد ضرورة أن يصحو النظام السوري من السكرة الإيرانية، ويتعقّل، ويرى مصيره الذي سيقرّر في أيّة تسويةٍ مستقبلية، ولن تكون لصالح شخصيات أساسية فيه. ولكن عبثاً؛ هو بذلك، لا يُفرّط بالشعب وببعض تيارات في السلطة فحسب، بل وبذاته كذلك؛ إنّها الحماقة.
لن نفترض، كما بعض الأبحاث العلمية، أنّه لو لم يعتمد النظام الخيار الأمني واعتمد الخيار الوطني النهضوي، لكانت سورية في أفضل حال. لا لا، حيث إن سياسات النظام في عام 2000، ومنذ السبعينيات، هي ما أدى إلى ما نراه اليوم. وكذلك لن ننشغل كثيراً بالدور الإيراني، وقد يكون صحيحاً، في دفعه إلى الخيار الأمني، فتاريخ السلطة تاريخ الخيار الأمني، وبالتالي دُمرت سورية، وإذا كان للنظام دور مركزي في ذلك، فإن كل الدول والأطراف المتدخلة بالشأن السوري ضالعةٌ في ذلك الدمار، والخراب، والذي أصبح شاملاً، والأسوأ أن المعارضة، بأغلبية تياراتها، مُخرَبة ومشوهّة، ويعوزها كثير من الوطنية.
بخصوص المعارضة، ومنذ أكثر من عشرة أيام، أثار التبديل التافه بين أنس العبدة، حيث انتقل من رئاسة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية إلى رئاسة الهيئة العليا للمفاوضات، وعكس ذلك، انتقل زميله نصر الحريري من رئاسة الهيئة إلى رئاسة الائتلاف، سخريةً مريرةً وألماً كبيراً لدى أغلبية المعارضة السورية، والشعب الذي انتفض يوماً. الفعل هذا هو من أشدّ حالات الاستهتار، وهو تعبير عن تبعية هذه الشخصيات للدول الإقليمية. يتجاهل التبديل المنحط هذا مئات من أفراد النخب السورية المعارضة، وهي جديرة بأن تتبوأ تلك المناصب وسواها. هيئات المعارضة هذه، كما النظام، تبتذل مفهوم الانتخاب والتمثيل السياسي والعمل المؤسساتي والحس الوطني، لصالح شخصياتٍ مضمونة وخاضعة، وذليلة.
مضت عشرون عاماً، انكشف المجتمع السوري فيها كلّيّا، ولم يحفظ لنفسه سنداً أو هوية أو إجماعاً يركن إليه للنهوض، بل أصبحت فئاتٌ كثيرة منه موزعةً بين دول متعدّدة؛ فيوالي بعضها تركيا أو روسيا أو أميركا أو إيران، وهذا مأساوي لشعبٍ انبعث من الموت، وقام بثورةٍ عظيمة، وإذا بنظامه ومعارضته يقودان البلاد إلى الدمار والخراب والاحتلالات.
ثمّة احتلالات عدّة، وتحتل سورية بأكملها، والمشكلة في غياب التوافق بينها، ورغبة كل منها في ترسيم مناطق نفوذها وتعزيزه باعتبارها أوراق ضغطٍ إلى حين التسوية. الأسوأ أن روسيا التي هناك إجماع، إلى هذه اللحظة، أن سورية من نصيبها، لم تعِ بعد أن من أكبر أخطائها ربط احتلالها سورية بتسوياتٍ عالمية، ومنها أخيرا الوضع المفتوح في ليبيا.
سمح الوضع المتأزم في سورية، والمعقد، لتركيا بإرسال آلاف المقاتلين السوريين إلى ليبيا، وهناك تقارير تؤكد إرسال روسيا مقاتلين سوريين إلى البلد ذاته. الأسوأ من هذا وذاك أن لا وطنيّة حقيقية في سوريّة ترفض أحوال بلادها. وأمّا استجابة الوطنيين السوريين، وقد أصبحوا فئات هامشية، فهي متدنية إزاء كارثية الوضع الذي وصل إلى الاستنقاع، ومنه الارتزاق؛ سورية بحالتها المعقدة أعلاه، وبعد عشرين عاما من سلطة الاسد الابن، تتجه نحو مزيدٍ من التشظي والخراب والدمار وتمكين الاحتلالات منها، سيما الروس.
المصدر: العربي الجديد