المعارضات السورية… فالج لا تعالج

علي العبد الله

أثارت الدعوة إلى عقد مؤتمر “المسار الديمقراطي السوري” في بروكسل، وانعقاده يومي 25 و26 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، ردود فعل رافضة وناقدة ومستهجنة ومتهمة. لما كل هذا السخط وما المشكلة في عقده؟.

قال نص تعريفي للمؤتمر كتبه محيي لالا على صفحته على “فيسبوك”، 28/10/2024، “بدأت سلسلة مؤتمرات استوكهولم مبادرةً دولية تجمع بين الخبراء والمنظمات غير الحكومية والفاعلين السياسيين لمناقشة سبل دعم الديمقراطية في المناطق التي تعاني صراعات داخلية”. و”يأتي مؤتمر بروكسل خطوةً تكميلية لهذه السلسلة، حيث يهدف إلى تحويل الأفكار والرؤى التي نُقشت في استوكهولم إلى عمل عملي ومنظم. يتمحور المؤتمر حول إنشاء هيكلية سياسية محترفة قادرة على تنفيذ الخطط والاستراتيجيات التي تسهم في بناء ديمقراطية مستدامة في سورية. هذا التوجه يعكس فهمًا عميقًا للحاجة إلى مؤسّسات قوية ومتماسكة لتحقيق التغيير المطلوب”. قال مركز أولف بالمه للديمقراطية في السويد إنه خلف عقد المؤتمر، ولعب دورًا محوريًّا في تنظيمه ودعمه، وبتوفير الاتحاد الأوروبي التمويل والمساندة السياسية. أما مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) فهو يمثل الجبهة السياسية الميدانية، ما يضمن تماشي الجهود مع الواقع الميداني واحتياجات الشعب السوري. وكان فراس عابدين قد أوضح على صفحته على الفيسبوك يوم 27/10/2024 “أن مجلس سوريا الديمقراطية من الداعين إلى عقد المؤتمر”. في حين كان، عضو اللجنة التحضيرية للمؤتمر، موفق نيربية، قد قال لـ”العربي الجديد” يوم 23/10/2024 إن “مجلس سوريا الديمقراطية مساهم مهم في هذا المسار وهي حقيقة فعلية”، وبرّر التعاون مع “المجلس” بقوله: “نحتاج إلى طرف موجود على الأرض حتى يكون ارتباطنا بالداخل السوري وعلى الأرض ممكنًا، ووقع اختيارنا على (مسد) للبدء بهذا التوجّه”. هنا نحن أمام شهادات متعارضة لأصوات من داخل مطبخ المؤتمر بين من يقول “مسد” داعياً إلى المؤتمر، وفق فراس عابدين، ومن يقول إنه “الجبهة السياسية الميدانية”، “مما يضمن تماشي الجهود مع الواقع الميداني واحتياجات الشعب السوري”، وفق قول محيي لالا، وبين من يقول ما معناه دفعتنا، يقصد القوى الديمقراطية السورية المعارضة، الحاجة إلى جسم على الأرض فاخترنا “مسد”، وفق موفق نيربية.

يبدو أن دور “مجلس سوريا الديمقراطية” في التحضير للمؤتمر، أو الدعوة إليه، ومشاركة أعضائه فيه السبب وراء ردود الفعل الرافضة والناقدة والمستهجنة والمتهمة للمؤتمر وللمشاركين فيه. في تعليق على انعقاد المؤتمر على موقع ملتقى العروبيين (رأي الموقع:26/10/2024) مهّد الكاتب لتعليقه بما كتبه وجيه كوثراني عن خلفيات عقد المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913 ودور السفارة الفرنسية في التحريض على عقد المؤتمر، ودفع شخصيات عربية للمشاركة فيه تمهيداً لانفصال العرب عن السلطنة العثمانية الذي جرى بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى بانهيار السلطنة، في اتهام ضمني للمشاركين من العرب في مؤتمر بروكسل مع “مجلس سوريا الديمقراطية والتلميح إلى أنهم مدفوعون من قوى خارجية وسيلحقون الضرر بسورية.

سوريَّة الجديدة بعد الخلاص من نظام الاستبداد في حاجة إلى دستورٍ جديدٍ، تَكتبُ مسوَّدَته لجنةٌ منتخبةٌ من قبل الشَّعب السُّوريّ

كان المجلس الإسلاميّ السُّوريّ أقل حدّة وأقرب إلى التعقل، حيث أصدر يوم 26/10/2024 بياناً عرض فيه رؤيته للتوافق في عشر نقاط باعتبارها “المبادئ الأساسية” لهذه الرؤية بديلًا لما قد يصدر عن مؤتمر بروكسل: أولًا، الانتقال إلى نظام حكمٍ رشيدٍ قائمٍ على العدالة والحريَّة والكرامة والمساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات، بعيدًا عن الاستبداد والخضوع لإرادة الأجنبي، وقد كان هذا هو الهدف الأسمى للثَّورة السُّوريَّة.

ثانياً، إنَّ طيَّ صفحة الماضي المملوء بالمآسي والجراح، وفتحَ صفحةٍ جديدةٍ على المستويين السِّياسيّ والاجتماعيّ يظل مشروطًا بتحقيق العدالة؛ حيث يجب تشكيل لجانٍ قضائيةٍ خاصةٍ ومستقلةٍ لمحاكمة المجرمين ومعاقبتهم، والكشفِ عن مصير المفقودين، وتعويضِ أُسَرِ الضحايا والمتضررين معنويًّا وماديًّا، وإننا بهذا نستطيع أن نتحدثَ عن سوريَّة الجديدة والموحَّدة.

ثالثًا، الحوار الشَّامل بين الأطراف السِّياسيَّة والاجتماعيَّة الوطنيَّة، هو الطريق المُثمر والموثوق لتوليد الثِّقة بين مكونات المجتمع السُّوريّ، وبناء الأرضيَّة المشتركة للتعايش في وطنٍ واحدٍ، ويجبُ أنْ يكون هذا هو النَّهج المستمر في التَّعامل مع المشكلات في سوريَّة المستقبل.

رابعًا، الشَّفافيَة والوضوح وصِدق النوايا هي الأسس التي يجب اعتمادها في كل المقاربات السِّياسيَّة.

خامسًا، في بلادنا تنوع دينيٌّ وثقافيّ وإثنيٌّ واضحٌ، وهو يُفرز خصوصياتٍ لكلِّ مكوِّنٍ من مكوِّنات المجتمع السُّوريّ، وهي تنعكس على الصَّعيدين القضائي والاجتماعي.

سادسًا، تأكيد الانتماء العربيّ والإسلاميّ، وتعزيز كلِّ ما مِن شأنه ترسيخُ الانتماء إلى ثقافتنا وتاريخنا وخدمة المصلحة العُليا.

سابعًا، وحدة التُّراب السُّوريّ، ووحدة الشَّعب السُّوريّ، واستقلالية القرار الوطني، من الركائز الأساسيَّة لقيام نظامِ حكمٍ وطنيٍّ يُلبي طُموحات الشَّعب السُّوريّ، ويمكن اختيار أسلوبٍ إداريٍ مناسبٍ عبر استفتاءٍ داخليٍ حرٍّ، بعيدًا عن الضغوط والتدخلات الخارجيَّة.

الواضح من الحوار الكردي الكردي أن “قوات سوريا الديمقراطية” غير مستعدّة للتخلي عن أي من منطلقاتها أو ممارساتها السياسية والعسكرية

ثامنًا، سوريَّة الجديدة بعد الخلاص من نظام الاستبداد في حاجة إلى دستورٍ جديدٍ، تَكتبُ مسوَّدَته لجنةٌ منتخبةٌ من قبل الشَّعب السُّوريّ، ويتمُّ التصويتُ عليه من قِبَلهِ أيضاً، ويجبُ أنْ يَعكسَ الدُّستورُ الجديدُ قِيَمَ العدل والشُّورى والحرية والكرامة، وكلَّ مُفردات الهُويَّة السُّوريَّة.

تاسعًا، الانتخابات الحرَّة النزيهة، والتَّداول السِّلمي على السُّلطة، واستقلال القضاء، والمساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات، هذه المبادئ تشكِّل جوهرَ النِّظام السِّياسيّ المنشود، وهذا النِّظام هو الذي يضمن توزيعَ الثَّروات على نحوٍ عادلٍ، وتكافؤَ الفُرصِ في الوظائف العامة المدنيَّة والعسكريَّة، كما أنَّه يضمن شُمولَ التنمية المستدامة لكل المناطق السُّوريَّة على نحوٍ متوازن.

عاشرًا، تشجيع أشكال المشاركة الاجتماعيَّة البنَّاءة، وتعزيز روح المسؤوليَّة الوطنيَّة، وترسيخ قيمِ التطوع والإحسان، والوقوفُ إلى جانب الضعيف والمظلوم وجميع الفئات المهمَّشة في المجتمع.

مبادئ إيجابية لكنها عامة، وسبق طرح معظمها في السنوات الماضية، ولا تنطوي على جانب عملي إجرائي، خطة تحرّك، يستدعيه تحدي الاستعصاء القاتل الذي يرخي بثقله على المشهد السياسي السوري منذ بعض الوقت. وهذا مع وجود فقرات غير محدّدة الدلالة مثل ما ورد في البند الخامس “في بلادنا تنوع دينيٌّ وثقافيٌّ وإثنيٌّ واضحٌ، وهو يُفرز خصوصياتٍ لكلِّ مكوِّنٍ من مكوِّنات المجتمع السُّوريّ، وهي تنعكس على الصَّعيدين القضائي والاجتماعي”. ما القصد من “وهي تنعكس على الصَّعيدين القضائي والاجتماعي” عمليًّا، حقوق خاصة أم مجرد معاملة خاصة كالمحاكم الشرعية الخاصة بالأحوال المدنية والزيجات والمواريث؟. وما جاء في البند الرابع “الشَّفافيَة والوضوح وصِدق النوايا”، فالشفافية والوضوح عاملان جوهريان أما صدق النوايا فقضية لا يركن إليها في الواقع العملي لأنها غير قابلة للتحديد والقياس ما يستدعي الاتفاق على قواعد عمل تكشف عن مدى تطابق ممارسات الأطراف مع المبادئ والخطط المتفق عليها. وقال الباحث السياسي، محمد سالم، لـ”العربي الجديد” يوم 23/10/2024 إن “المؤتمر جزء من سعي متكامل وطويل الأمد لقوات سوريا الديمقراطية [الجناح العسكري لمجلس سوريا الديمقراطية] لتعزيز شرعيتها وتقوية نفوذها وفرض نفسها على الساحة السورية مشروعًا منافسًا للنظام السوري ولمختلف مشاريع الحكم في سورية”.

المشكلة ليست لأن “مسد” ليس ديمقراطيًّا فقط، بل لأن التكتل الذي سينشأ سيكون بحكم توازن القوى ملحق بمسد ليس أكثر

في السياق، جاء تفسير موفق نيربية لعقد المؤتمر ومشاركة القوى الديمقراطية فيه غريبًا نوعًا ما، قال: “انطلقت من حقيقة ضعف تمثيل الديمقراطيين في الساحة السورية، وتغييبهم من قبل القوى الإسلاموية والمليشياوية، ودول تدعم هذا الاتّجاه”. قول يعكس ثقافة تبريرية اعتمدتها قوى معارضة سورية، اليسارية منها على وجه التحديد، قائمة على إلقاء اللوم على الإسلاميين إن في تفسير فشل الثورة السورية أو في ضعف أداء هذه القوى خلال مرحلة الثورة. واقع الحال أن الديمقراطيين فشلوا قبل الثورة في مد جسور فكرية وسياسية وإنسانية بينهم وبين الحاضنة الشعبية؛ وزادوا الطين بِلة بعدم قدرتهم على تشكيل جسم سياسي وازن خلال الثورة، حيث كانت الصراعات بينهم حادة وفاجرة كما عرضها رموز من هذه القوى في الصحافة ومحطات التلفزيون. وكانت ثالثة الأثافي، كما تقول العرب، تركهم الميدان والخروج من البلاد إلى الأمان الشخصي تاركين الحاضنة الشعبية تدفع وحدها فاتورة الدم. لم تكن ثمة قوى إسلامية على الساحة ولما ظهرت لم تكن سيطرتها على الساحة شاملة، انحصرت سيطرتها لاحقًا في المجال العسكري، وقد ساعدها ضعف دور القوى الديمقراطية ورحيلها المبكر خارج البلاد على مد هذه السيطرة على المجال المدني بفرض رؤاها وحدودها وقيودها على المواطنين وحياتهم الشخصية الذين لم يجدوا سندًا ولا ظهيرًا يرفع عنهم الحيف عبر سلطات الأمر الواقع. أما ربطه، نيربية، بين مشاركتهم بـ “سدّ الثغرة الأساسية في تركيبة هذه المعارضة، وهي غياب الوجود الديمقراطي والوطني عن الساحة، أو على الأقل ضعف تمثيله بشكل كبير ومؤذٍ”. وإضافته: “نحتاج إلى طرف موجود على الأرض حتى يكون ارتباطنا بالداخل السوري وعلى الأرض ممكنًا، ووقع اختيارنا على (مسد) للبدء بهذا التوجّه”. فيحتاج إلى إجابة مباشرة على سؤال جوهري: هل مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) حركة ديمقراطية حتى تُحل مشكلة غياب الوجود الديمقراطي على الساحة بالتعاون معها؟. فالصور الصادمة التي عرفتها تجربة “الإدارة الذاتية”، من منع تنظيمات كردية من العمل في ساحة سيطرتها، إلى قمع الرأي المخالف وملاحقة الصحافيين، إلى فرض الخدمة الإلزامية على مواطنين لا يشاركونها توجهاتها الفكرية ولا يتبنون مشروعها السياسي، مرورًا بفرض برامج تعليم تتعارض مع قيم المجتمع، والأخطر عدم التوازن في التشكيلة القيادية لمسد وقسد حيث الهيمنة للكرد على بقية المكونات حتى في مناطق الأكثرية العربية… إلخ، الصور تقول إن هذه الأخيرة لا تمتّ إلى الديمقراطية في شيء، من دون أن ننسى قمعها للعرب في هذه الساحة والتزامها بفكر ستاليني مغلق. المشكلة ليست لأن “مسد” ليس ديمقراطياً فقط، بل لأن التكتل الذي سينشأ سيكون بحكم توازن القوى ملحق بمسد ليس أكثر. تحالف يضم قوى ليس في جَعبتها غير رؤى نظرية مع قوة مسلّحة تقيم سلطة أمر واقع في جزء هام من سورية وتستأثر بعائداته المالية؛ والسلطة لمن يملك المال والسلاح. لست ضد التحاور مع “مسد”، لكن على قاعدة محدّدة: وضع فكرتها وتصوّرها عن مستقبل سورية على بساط البحث والكشف عن مدى استعدادها للتخلي عن ما يثبت عدم صلاحيته. والواضح من الحوار الكردي الكردي أنها غير مستعدّة للتخلي عن أي من منطلقاتها أو ممارساتها السياسية والعسكرية.

ثمة تخوفُ جدّي من انتهاء المحاولة وضياع جهود سنوات بتحول التشكيل الجديد إلى وسيلة تتيح لـ”مسد” غسل سجلّها غير الديمقراطي ومدّ نفوذها على قوى من خارج ساحتها.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. هل مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) حركة ديمقراطية؟ الوقائع وسجل ممارساتها جميعاً تدل على إنها سلطة أمر واقع غير ديمقراطية، وإن محاولتها الأخيرة بعقد مؤتمر “المسار الديمقراطي السوري” في بروكسل انهى محاولات وضياع جهود سنوات بتصنيع تشكيل جديد يغسل سجلّها غير الديمقراطي والإرهابي ومدّ نفوذها لخارج ساحتها، قراءة موضوعية ودقيقة.

زر الذهاب إلى الأعلى