هجوم أنقرة وسياقاته الكردية والإقليمية

محمود علوش

تخوض تركيا منذ عقود طويلة صراعاً مع حزب العمّال الكردستاني. ومع استثناء عملية السلام، التي امتدّت بين عامي 2013 و2015، ظلّ الصراع يتغذّى من مجموعة ديناميكيات محلّية وخارجية جعلته عصيّاً على الحلّ. في الحقيقة، هذه الديناميكيات متشابكة من حيث التأثير، تُفسّر السبب الرئيس للانهيار السريع لعملية السلام خلال العقد الماضي. لقد أدّى النهج التصالحي للرئيس رجب طيّب أردوغان تجاه المسألة الكردية إلى توفير العوامل المحلّية لإحداث تحوّل تاريخي في مسار الصراع في النصف الأول من العقد الماضي، لكنّ صعود النزعة الانفصالية الكردية في سورية في تلك الفترة كانت له آثار مُدمّرة في هذه العملية. يذكر كاتب المقال هذه المحطّات الفاصلة في تاريخ الصراع، للوصول إلى تقييم موضوعي لهجوم أنقرة الأربعاء الماضي، وانعكاساته في الأفاق الجديدة التي برزت في هذا الصراع، في ضوء الخطاب التصالحي الجديد للتحالف الحاكم في تركيا تجاه الحالة الكردية.

لم يتبنَّ حزب العمّال الكردستاني (حتى كتابة هذه السطور) الهجوم، لكنّ السلطات التركية سارعت إلى إلقاء اللوم على التنظيم، وشنّت سلسلة ضربات جوّية على أهداف للحزب وفروعه السورية (الوحدات الكردية في شمالي سورية والعراق). يأتي الهجوم بعد ساعات من طرح زعيم القوميين في تركيا، وحليف أردوغان، دولت بهشلي، مبادرةً تتضمّن الإفراج المشروط عن زعيم الحزب المسجون، عبد الله أوجلان، مقابل إعلانه حلّ الحزب، وإنهاء تمرّده على الدولة التركية، ما يعطي مشروعية للطرح المتمثّل بأنّ الهجوم صُمّم ردَّاً دموياً على مبادرة بهشلي. لكنّ هجوم أنقرة يعكس حقيقتَين مُهمّتَين. أولاهما أن حالة حزب العمّال الكردستاني اليوم تختلف جذريّاً عن حالته خلال العقود الماضية، من جهة تحوّل مركزية صنع القرار فيه من أوجلان إلى قيادة أكثر راديكالية تتمركز في جبال قنديل في شمال العراق، وأنّ هذه القيادة تُشكّل سياستها في إدارة الصراع مع تركيا من منظور إقليمي للحالة الكردية. والحقيقة الثانية هي التأثير المُتعدّد الأطراف لقوىً إقليميةٍ ودوليةٍ في خيارات حزب العمّال الكردستاني.

وتُضعف هاتان الحقيقتان، إلى حدّ كبير، فرص إعادة إحياء عملية السلام بين تركيا وحزب العمّال أو إطلاق عملية حلّ جديدة. مع ذلك، يستمدّ الانفتاح الراهن للتحالف الحاكم لحلّ المسألة الكردية على تحوّلاتٍ مُهمّة طرأت على الحالة السياسة الكردية في تركيا، وعلى الحالة الكردية المسلّحة في شمالي سورية والعراق، بعد النصف الثاني من العقد الماضي. ويتمثّل التحوّل الأول في حقيقة أن الحالة السياسة الكردية في الداخل لم تستطع التعبير عن نفسها، ولا تعزيز حضورها في الحياة السياسية، في ظلّ استمرار الصراع التركي مع حزب العمّال، بينما يتمثّل التحوّل الثاني في الضعف الكبير الذي مُني به تمردّ حزب العمّال ومشروعه في شمال سورية بفعل الاندفاعة التركية في تقويض حضوره في سورية والعراق. أمّا التحوّل الثالث فيتمثّل في الشكوك المتزايدة بشأن مستقبل الوجود الأميركي في سورية والعراق، الذي لعب في السابق دور عامل قوي مُغذٍّ للطموحات الانفصالية الكردية في سورية. ويُمكن النظر إلى الانعطافة التركية نحو الانفتاح على النظام في سورية على أنها عامل آخر ضاغط على المشروع الإقليمي لحزب العمّال الكردستاني.

تشكّل هذه المتحوّلات مُجتمعة دافعاً قوياً للتحالف الحاكم في تركيا لاستثمارها من أجل إيجاد أفق لإعادة إنتاج حلٍّ للمسألة الكردية في الداخل، ولإنهاء مشروع الحكم الذاتي الكردي في شمال سورية. حتى مع الأخذ بعين الاعتبار التأثير المحدود لعبد الله أوجلان في خيارات قيادة الحزب في جبال قنديل، والهامش الذي تفرضه حاجة أردوغان إلى تعديل الدستور للحالة السياسية الكردية التركية للعب دور أكثر فعالية في مشروع التسوية الجديدة للمسألة الكردية على المستوى التركي، إلا أن إعادة تعويم الزعامة المعنوية لعبد الله أوجلان لحزب العمّال تقوّض قدرة قيادة قنديل على فرض مقاربتها للصراع مع تركيا على الحالة الكردية التركية. إن حقيقة التأثير السالب لهذا الصراع على تطوير الحالة السياسة الكردية وتعزيز اندماجها في الحياة السياسية التركية، والرهانات المدمرة لحزب العمّال بربط مصير المسألة الكردية في الداخل بالحالة الكردية الإقليمية، تُضعِف في الواقع المشروعية التي يسعى الحزب إلى تعزيزها ممثّلاً لتطلّعات الحالة الكردية في تركيا.

في ضوء ذلك، يُمكن إدراج مبادرة الحلّ الجديد لزعيم القوميين الأتراك، أولاً في إطار الديناميكيات الداخلية الجديدة التي طرأت على السياسة التركية بعد الانتخابات المحلّية أخيراً، وعملية التليين بين التحالف الحاكم وأحزاب المعارضة، وثانياً في إطار المتحوّلات المستمرّة التي تطرأ على مُحرّكات الصراع التركي مع حزب العمّال الكردستاني. وبالنظر إلى استحالة عزل العوامل الخارجية فاعلاً مؤثّراً في الصراع، فإن الدول التي لديها نفوذ على حزب العمّال مثل إيران والولايات المتحدة يُمكن أن تستخدم هذا النفوذ لإفشال مسار الحلّ الجديد، إذا ما وجدت فيه تهديداً لدورها الإقليمي. سبق أن استثمر الإيرانيون في حزب العمّال ورقةَ ضغطٍ على تركيا وفي المنافسة الإقليمية معها في سورية والعراق. كما أن الولايات المتحدة تواصل هذا الاستثمار على مستويات مُتعدّدة. وفي المحصّلة، هناك ظروف محلّية ودولية ينبغي توافرها لنجاح مسار كهذا. والأدوار التي تلعبها إيران والولايات المتحدة ودول المنطقة في الصراع، تزيد من صعوبة إيجاد بيئة خارجية مناسبة لمسار سلام بين تركيا وحزب العمّال الكردستاني.

https://www.alaraby.co.uk/opinion/%D9%87%D8%AC%D9%88%D9%85-%D8%A3%D9%86%D9%82%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%82%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A9#:~:text=%D9%87%D8%AC%D9%88%D9%85%20%D8%A3%D9%86%D9%82%D8%B1%D8%A9%20%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA%D9%87,%D9%88%D8%AD%D8%B2%D8%A8%20%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%91%D8%A7%D9%84%20%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86%D9%8A.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. هل العملية الإرهابية التي تمت بأنقرة والتي تبنتها أخيراً الـ PKK قضت نهائياً على مشاريع ومبادرات السلام الداخلي بتركيا؟، وآخرها مبادرة زعيم القوميين في تركيا، وحليف أردوغان، دولت بهشلي؟، هل الدول التي لديها نفوذ على حزب العمّال الـPKK مثل إيران وأمريكا إستخدمت هذا النفوذ لإفشال مسارات الحلّ للسلام بتركيا؟ إن توقيت العملية ووجهتها تظهر ذلك.

زر الذهاب إلى الأعلى