فُقاعات سياسية وإنسانية

محمود الريماوي

تمنّى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في جولته الحادية عشرة في المنطقة منذ أكتوبر/ تشرين الأول العام الماضي (2023)، على رئيس وزراء دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، ألا تؤدّي الضربة الإسرائيلية على إيران إلى تصعيد كبير، أو أن تُرجأ الضربة إلى ما بعد الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني، موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، من أجل عدم التأثير سلباً على حظوظ كامالا هاريس. علماً أن نتنياهو (ومعه أقصى اليمين) يتمنّى عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ما يكشف الارتباك الذي يسم الإدارة الديمقراطية في الأسابيع الأخيرة من ولاية جو بايدن. ومع هذا الارتباك، تحرص هذه الإدارة على التماهي مع أهداف حكومة المستوطنين في تلّ أبيب، غير عابئة بسمعتها المنهارة في العالم.
دعا بلينكن مضيفيه في تلّ أبيب إلى ما سمّاه “تحويل النصر العسكري نصراً استراتيجياً”، بالبدء بإيقاف الحرب على غزّة، من أجل الشروع في فرض أمر واقع سياسي جديد في القطاع المنكوب، لا مكان فيه لفصائل المقاومة أو المعترضين على الاحتلال. ولهذا، وكما قال الوزير نفسه، عُنيت الجولة بالبحث في اليوم التالي للحرب، بتمكين شركة أمنية أميركية إسرائيلية، بالتنسيق مع جيش الاحتلال، من توزيع المساعدات في شمال غزّة، وتتولّى هذه الشركة “السهر” على وقف إطلاق النار بتصفية بؤر المقاومة هناك، بينما تجاهل بلينكن كلّياً، خلال زيارته، الإشارة إلى التصعيد الإسرائيلي الوحشي ضدّ العائلات، وضدّ المدنيين، في شمال القطاع، وضدّ ما تبقّى من مصادر المياه، ومن وسائط الإسعاف والإطفاء، وحيث سقط أكثر من 700 ضحية خلال 17 يوماً عدا مئات من المصابين، وقد برهن رئيس دبلوماسية بايدن أنه يملك ما يكفي من عنصرية كي يتجاهل هذه الكارثة المروّعة، في وقت لطالما ردَّدت فيه إدارة بايدن أنها معنية بأن تراجع إجراءات متساوية تحفظ حياة وكرامة الإسرائيليين والفلسطينيين معاً. وقد تبدّى على مدار ولاية بايدن أن هذه التصريحات لا تعدو كونها فقاعات سياسية، من سياسيين نافذين يدينون بالولاء للصهيونية قبل الولاء لبلادهم وأمّتهم. ومن المساخر إطلاق نعت “فقّاعات إنسانية” على توزيع المساعدات المزعوم في شمال غزّة، الذي ستتولّاه، وفق المخطّط، شركةٌ أمنية يقودها رجل أعمال إسرائيلي. في الأثناء، ورغم حديث عن التخطيط لليوم التالي في قطاع غزّة، فقد امتنع بلينكن عن التوجّه إلى رام الله للتباحث مع القيادة الفلسطينية هناك، رغم الادّعاءات أن خطّة اليوم التالي تلحظ وجوداً للسلطة في غزّة بعد الحرب، إذا انتهت هذه الحرب الأبدية، كما يصفها منتقدو نتنياهو في الصحافة الإسرائيلية.
الوضع الكارثي في غزّة، والقمع المتوحّش في الضفة، لا يؤرقان إدارةً أميركية برهنت أنها أسوأ إدارة ديمقراطية في التعامل مع قضية فلسطين
قبل أسابيع، وصف بلينكن جولته السابقة العاشرة بأنها “الفرصة الأخيرة لوقف إطلاق النار”، وقد استغلّ تلك الجولة لتسويق تعديلات نتنياهو على مقترحات بايدن، مع ترديد أكذوبة أن “حماس” تعرقل التوصل إلى اتّفاق، وها هو يعود زاعماً أن الظروف مهيأة بعد اغتيال الشهيد يحيى السنوار للتوصل إلى وقف إطلاق النار (لفترة محدودة عشرة أيام في مقابل إطلاق سراح عدد محدود من الرهائن)، والراجح أن نتنياهو لم يوافق (ولم يعترض) على المقترح الجديد، فالأولوية لديه إلحاق مزيد من الدمار في شمال قطاع غزّة، وشلّ وجود من يبقى هناك، وتهيئة الظروف على الأرض بصورة حثيثة من أجل الاستيلاء على الشمال، والتجاوب مع طلبات 700 عائلة إسرائيلية بعودة الغزو الاستيطاني لهذا الجزء من القطاع، الذي كان يضمّ 400 ألف نسمة تناقصت إلى أقلّ من مائتي ألف في سياق حملة الإبادة المنهجية. ولن تعيق ما تسمّى الشركة الأمنية دفع هؤلاء إلى المغادرة والتكدّس في وسط القطاع وجنوبه. هذا في وقت يزعم فيه بلينكن أن إدارة بلاده لا توافق على إعادة احتلال القطاع، لكنّها، وكما هي العادة، توافق أخيراً، أو تغضّ النظر عما يريده نتنياهو، بخاصّة أن أركان هذه الإدارة على وشك الانصراف في يناير/ كانون الثاني المقبل.
والحال أن الوضع الكارثي في غزّة، وانفلات القمع المتوحّش في الضفة الغربية، لا يؤرقان كثيراً هذه الإدارة، التي برهنت المرّة تلو المرّة أنها أسوأ إدارة ديمقراطية في التعامل مع القضية الفلسطينية، إذ إن ما انشغل به صاحب الجولات المتكرّرة في الجولة هذه، هو عدم انفلات الأوضاع بما يتسبّب باندلاع حرب كبيرة وطويلة، تُستدرَج إليها أميركا. ومع كتابة هذه السطور (ظهيرة الخميس الماضي)، كان وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت قد أكّد أن سائر التجهيزات تمت لتوجيه الضربة إلى إيران، وصدرت منه إشارة عسكرية لقواته تفيد بأن كلّ شيء جاهز، بانتظار إشارة “المستوى السياسي” للبدء. وربّما ينتظر نتنياهو عودة بلينكن إلى واشنطن من جولته، حتى لا يقال إن الرجل لا يراعي شكلياً مقتضيات التحالف مع واشنطن.
بدل أن تنصرف الإدارة الأميركية الديمقراطية “التقدمية” إلى إحلال سلام عادل في المنطقة، انصرفت إلى دعم أشدّ الاتجاهات تطرّفاً في إسرائيل
على أن إيران لم تكن القضية الوحيدة التي انشغل بها بلينكن، فقد سارع للانتقال من تلّ أبيب إلى الرياض من أجل بحث فرص التطبيع مع القادة السعوديين، وكان بايدن (وأركان إدارته) قد أبدوا التزامهم مرّة بعد مرّة بتحقيق تطبيع سعودي إسرائيلي، وبما يمثّل إنجازاً لهذه الإدارة يوازي إنجاز ترامب في عقد الاتفاقات الإبراهيمية. ويقفز بايدن ورجاله عن أن الدولة العبرية قد برهنت أن شهيتها مفتوحة للاستيطان ولشنّ حرب الإبادة وليس للسلام، وأنها لا تتورّع عن ممارسة إرهاب الدولة بصورة منهجية واستعراضية، ما جعل الرياض تعيد النظر في مشروع التطبيع، أو ترجئه إلى إشعار آخر، بيد أن الصلافة الأميركية لا تعرف حدوداً، فبدلاً من لجم النزعة المتوحّشة لدى حكومة نتنياهو، تُدعَى الدولة الإسلامية الكبيرة للتطبيع مع هذه الحكومة، وفي هذا الظرف بالذات، الذي تتعرّض فيه حكومة نتنياهو إلى إداناتٍ من محكمتَي العدل والجنائية الدوليتين، ومن الأمم المتحدة وسائر وكالاتها. وبدلاً من أن تنصرف الإدارة الديمقراطية “التقدمية” إلى إحلال سلام عادل في المنطقة، فقد انصرفت إلى دعم أشدّ الاتجاهات تطرّفاً في المجتمع الإسرائيلي، وتسعى خلال ذلك إلى منح مكافأة كبرى لهذا التطرّف بإبرام تطبيع معه، من طرف دولة ذات مكانة كبيرة لدى مليارَي مسلم في العالم، وهي السعودية.
ويسترعي الانتباه أنه خلال جولة بلينكن، وبالتزامن مع التصعيد الوحشي ضدّ شمال غزّة، وضدّ بيروت ومناطق لبنانية عدّة، فإنّ مجموعة بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، التي اجتمعت في روسيا، قد أطلقت نداءً لوقف إطلاق النار في غزّة ولبنان، وبتوجيه هذا النداء والاكتفاء به، فإن البشرية “تثق” أن عالمنا قد بات متعدّد الأقطاب وقُضي الأمر، كما لا تني هذه المجموعة تردّد في أدبياتها.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى