على بعد مائة ميل من جبل كوتوباكسي وفي براري جبال الانديز في ” الاوكوادور ” يقع الوادي الغامض المعزول عن عالم البشر ، إنه ” بلد العميان ” . كان يسكنه عائلة أو نحو ذلك من مُلوَنين فارين من طغيان وفجور حاكم اسباني لعين ، لكن هؤلاء كان قد أصاب بعضهم مرض مجهول أودى بهم جيل بعد جيل إلى أن أصبح الجميع عمياناً ، ومن سوء حظهم آتاهم زلزال ” مايندوبامبا ” الهائل ، وحدثت انهيارات أرضية ، وفيضانات مفاجئة ، وانهيار كامل لجانب من جبل أروكا القديم ، عزل بلد العميان إلى الأبد عن المستكشفين .
وصادف أن متسلق الجبال ” نيونز ” كان يمارس هوايته في الاستكشاف والتسلق، فقد وصل إلى قمة جبل ” أروكا “، وفي ذروة ابتهاجه بالوصول انزلقت قدمه وسقط إلى أسفل الوادي الثلجي السحيق ، لم يصاب بأذى ، وإن بدأ يشعر بعد أن صحا من إغمائه بوهن في أضلاعه .. وبدأت منذ ذلك مغامرته المجهولة النهاية .. في الوادي وبين الأشجار الثلجية ، شاهد عن بُعد ثلاثة رجال ، لوح لهم بيديه فلم يستجيبوا ، صاح بهم علهم يلتفتوا إليه ، لكنهم كانوا يلتفتون بدون أي حراك تجاهه … جمع بقايا قوته وعبر ساقية نهر ، فوصل إليهم ، واكتشف أن عيونهم غائرة ، عّرفهم عن نفسه وقصته ، وقال لهم أنه مبصر وأنه يراهم ، وساد هرج بينهم عما يهذي به ، فاقتادوه إلى زعيمهم ، أثناء وصوله للقرية استرعى انتباهه أن البيوت بلا نوافذ ، وأن الجدران مطلية بألوان صاخبة ومتداخلة وغير متناسقة .. وكان الناس يمرون بالقرب منه بدون أن يلتفتوا إليه ، فايقن انه في ” بلد العميان ” ، مستذكراً المَقُولةُ القَدِيمة: «في بلدِ العُمْيانِ يَكونُ الأَعْورُ مَلِكًا»؟ .. وصل إلى كبيرهم وحدثه كيف أتىٰ ومن أين أتىٰ ، وحدثه عن البصر وأنه يبصر ، وأنه جاء من مكان يبصر فيه جميع الناس، وبأنه يرى الشمس والقمر والأشجار والوديان والانهار والبيوت .. كان الدهشة عارمة بين جميع الحاضرين ، وبدأت الاسئلة عن البصر ومعنى البصر وكيف يبصر الناس ؟ واعتبروا حديثه هزياناً ، وسخروا منه ونعتوه بالجنون .. لقد فشل في شرح معنى البصر لهم ، فكيف يفهم من لا يبصر معنى البصر ؟؟
ولكن ” نيونز ” كان مضطراً للعيش معهم ، وكانت معاناته تزداد يوماً بعد يوم ، وفي غمرة معاناته وقع في عشق فتاة منهم ، كما وقعت هي في عشقه ، طلب من والدها ومن كبيرهم الزواج منها ، لكنهم رفضوا بشرط واحد ، أن يتم إجراء عملية بسيطة له تقتلع عينيه ، ليكون فعلاً واحداً منهم .. أدخله هذا الطلب في حوار داخلي ونفسي مؤلم ، وفي خيار أو الاختيار بين عشقه وبين اقتلاع بصره .. في ٱخر ليلة له وهو يكابد ٱلام التردد بين العشق والبصر ، انسل بين الثلوج والوديان هارباً بعيداً عن بلد العميان ، رغم كل الصعاب والأهوال التي تنتظره في عودته ، منحازاً لبصره على حساب عشقه ، باحثاً على طريق يصل إلى المبصرين مخلفاً وراءه ” بلد العميان ” اللعين …
هذه القصة الخيالية تقودنا إلى القول :
١- بلد العميان البلد الذي يتغنى بماضيه وأمجاده وانتصاراته ، ويعيش على بقايا هذا التاريخ ويعتاش عليه، ويستسلم لهزائمه ، ولا ينهض من أجل حاضره ومستقبله .
٢- المجتمع الذي يسوده الجهل والتخلف والفقر ، ويتحكم به الاستبداد والفساد ، هو مجتمع بلد العميان.
٣- مجتمع العميان ذلك المجتمع الذي يتحكم فيه النوازع القبلية والعشائرية ، وتسود فيه معايير العنف والثأر ، وكره الٱخر وعدم احترام المختلف ، وغياب منطق الحوار ، والدخول في صراعات عبثية لا تنتهي …
٤- مجتمع العميان مجتمع التعصب والطائفية والنوازع الإثنية ، المجتمع الذي يرفض أن يبصر التقدم الحاصل حوله ، المجتمع الذي لا يعمل على مقتضيات التنوير والانتقال إلى مجتمع أكثر حرية ومساواة وعدالة ..
٥- بلد العميان الذي لا يعرف واقعه ، وما يجري حوله ، ولا يعرف طبيعة الأخطار المحدقة به ، ولا يعرف التمييز بين بين عدو وٱخر، ولا كيف يدير حروبه ، وأولويات مجابهته لإعدائه ، مجتمع لا يعرف أن يفاضل كما فاضل ” نيونز ” بين عشقه وبصره .
٦- بلد العميان يقوم على الحروب الصغيرة البينية فيما بين أفراده وقواه المجتمعية ، ولا يعرف كيف يختلف ولا كيف يتفق ، ولا ضرورات توحيد قواه تجاه الأخطار والمخاطر التي تحيط به أو تفعل فعلها فيه .
٧- بلد العميان ، البلد الذي يغرق في الظلام ، ولا يحاول أن يخرج أو يهرب منه ، كما هرب “نيونز ” بإرادة وتصميم من مجتمع العميان وهو يردد : كيف يفهم من لا يبصر معنى البصر … وهو أيضاً البلد الذي تأقلم ورضي بما هو فيه ، ولم يعد يرى سوى نفسه ، وبأن الحقيقة كل الحقيقة عنده ، هو على صواب وكل ما حوله خطأ ، أو لا وجود لعالم افضل غير عالمه ..
رواية “بلد العميان” للكاتب “هيربرت جورج ويلز” من روائع الأدب العالمي، قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من قبل الكاتب “محمد علي صايغ” تتحدث الرواية عن مدينة العميان في براري جبال الانديز بـ ” الاوكوادور ” في وادي غامض معزول، عن إسرة إسبانية سكنته أصبها مرض وأدى لعمى السكان وأصابهم زلازل عزلهم عن الجميع.