تحت عنوان الدفاع عن النفس، يتطلّع نتنياهو إلى تغيير وجه الشرق الأوسط، وتوازناته. ويسوّق نفسه زعيماً لهذا الشرق الجديد، من خلال استعراض قدرات جيشه في القتال على جبهات متعدّدة، وفي استخدام أحدث أنواع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، لإزاحة العوائق من أمام طموحاته الإقليمية، من أجل قيام “إسرائيل الكبرى” لا من حيث الاحتلال العسكري للجغرافيا، بل من حيث بسط النفوذ والسيطرة الاستراتيجية والسياسية على مجمل المنطقة.
كسر قواعد اللعبة في فلسطين ولبنان، وهما الجبهتان الوحيدتان الباقيتان منذ عقد معاهدات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1979، يشير إلى أكثر بكثير ممّا تزعمه إسرائيل، أو ما تردّده الولايات المتحدة صبحةً وعشيّةً في تصريحات مسؤوليها السياسيين والعسكريين، وكأنّه مسلّمة من المسلّمات المنطقية عن “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.
تغطّي واشنطن جرائم إسرائيل وانتهاكاتها الصارخة للقانون الإنساني الدولي، ولقوانين الحرب، في خضوع مُهين لطموحات “المحافظين الجدد” في إسرائيل، والذين يعلنون صراحة رغبتهم في السيطرة الجغرافية على كلّ فلسطين التاريخية، بل التوسّع الجغرافي في دول الطوق، ومنها لبنان، فضلاً عن الهيمنة على المنطقة بأسرها، أمنياً وسياسياً واقتصادياً. أمّا الادّعاء الإسرائيلي بضرورة القضاء على حركة حماس، عسكرياً وسياسياً، في الجنوب وإعادة مهجّري شمال فلسطين المحتلّة، في الشمال، فليس سوى الجزء الظاهر من الاستراتيجية الإسرائيلية، أو الحجج والذرائع، التي هي غير مقصودة لذاتها، بل لتحقيق أمور أخرى أخطر بكثير.
إخراج الحزب من المعادلة، وهو أقوى ذراع من أذرع إيران، والقوّة الرائدة أيديولوجياً وعسكرياً، كميليشيا غير نظامية، يعني تخلخل محور الممانعة
حقيقة الأمر أنّ الاجتثاث المنهجي لوسائل العيش في قطاع غزة، كما الضربات المتتالية للهيكلية القيادية في الحزب، تتجاوز بكثير مطالب الحدّ الأدنى، أي تأمين عودة المستوطنين إلى منازلهم، وانسحاب مقاتلي الحزب إلى شمال نهر الليطاني، وهي ليست سوى الطريق إلى هدف آخر أعلى بكثير، وهو القضاء عسكرياً على الحزب، وربّما يصل إلى القضاء عليه سياسياً، وكلّ ذلك من خلال اغتيال كلّ القيادات من مختلف الاختصاصات، تمهيداً لبسط النفوذ السياسي والأمنيّ على لبنان، استغلالاً للفراغ الذي سيخلّفه الحزب وراءه، ولأنّ لبنان هو الخاصرة الرخوة لسوريا، التي هي مستهدفة كذلك، بوصفها الملاذ الآمن للحزب وقاعدته الخلفيّة، وطرق إمدادته من إيران.
أمّا العملية الجارية في قطاع غزة، فلم يكن تحرير الأسرى الإسرائيليين فيه، إلا في أسفل لائحة الأولويّات. وحتى تفكيك حماس، واجتثاثها سياسياً، ليس سوى هدف ثانوي نسبي، وإن كان مهمّاً، بالنظر إلى الهدف الاستراتيجي الحقيقي، وهو إخراج القطاع تماماً من المعادلة الفلسطينية، بمعنى التخلّص من الفائض الديمغرافي الذي هو مركز ثقل أساسي في قوّة المقاومة، وفسح المجال لخروج السكّان، من غير استثناء المقاتلين منهم، إلى أيّ بلد يستقبلهم. وما طرح الاستسلام الكامل وتسليم الأسرى الإسرائيليين دون أيّ مقابل، سوى الخروج الآمن للسنوار ورفاقه ومن يشاء من الغزّيين، إلّا على أنّه مشروع الحلّ السياسي المقبول وحده إسرائيلياً، دون أيّ مقترح آخر.
الهدف الإسرائيليّ الإقليميّ
أمّا الهدف الإسرائيلي الاستراتيجي في المنطقة ككلّ، فهو تهميش أو تهشيم الدور الإقليمي لإيران، وعزلها في نطاقها الجغرافي في مرحلة أولى، تمهيداً لمرحلة تالية تشمل تغيير النظام، واستعادة إيران كما كانت أيام الشاه دولة صديقة وحليفة لإسرائيل. أمّا عنوان منع إيران من امتلاك السلاح النووي، فهو في طبيعته، كبقيّة العناوين الأخرى في فلسطين ولبنان، الجزء الظاهر فقط من الهدف الحقيقي، وذلك بذريعة حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها من هولوكوست جديدة ترتكبها إيران افتراضاً فور امتلاكها القنبلة النووية.
لا يكتمل المشروع الإسرائيلي في بُعده الاستراتيجي الجيوسياسي، دون التخلّص من الحوثيين في اليمن، وقد توعّد الإسرائيليون بأنّ دورهم آتٍ
لا يكتمل المشروع الإسرائيلي في بُعده الاستراتيجي الجيوسياسي، دون التخلّص من الحوثيين في اليمن، وقد توعّد الإسرائيليون بأنّ دورهم آتٍ، بعد الحزب في لبنان. وقد تكون المفاجآت التي تنتظر الحوثيين في اليمن الشمالي، كمثل المفاجآت التي صدمت الحزب في لبنان، وضربت هيكليّته القيادية في مفاصل أساسية، وحرمته من شبكة الاتصالات الآمنة، واستنزفت قدراته الصاروخية بشكل منهجي، وجعلت حاضنته الشعبية في حالة صعبة.
يتطلّع نتنياهو بعد الانتهاء من المهامّ العسكرية التي وضعها لنفسه، والتي تتخطّى كما جرت الإشارة ممارسة حقّ الدفاع المشروع عن الشعب اليهودي في إسرائيل، إلى حقّ التوسّع الاستراتيجي في المنطقة، وإعادة تشكيلها ذهنيّاً، لتكون متوائمة مع المشروع الصهيوني ومتصالحة معه. وهذا ما يقصده نتنياهو حرفياً، من مكافحة الإرهاب. وهو تحدّث كثيراً عقب اغتيال السيّد حسن نصر الله، عن رؤيته للمنطقة في اليوم التالي، وعن التغيير الذي سيطرأ، وعن التحالفات التي ستنشأ بعد تبديل موازين القوى.
إخراج الحزب من المعادلة، وهو أقوى ذراع من أذرع إيران، والقوّة الرائدة أيديولوجياً وعسكرياً، كميليشيا غير نظامية، يعني تخلخل محور الممانعة، وتهاوي “وحدة الساحات”، باعتبار أنّ الحزب، هو مركز الثقل المادّي والمعنوي، لهذا المحور. وكان السيّد نصر الله هو مركز الثقل المعنوي، وتغييبه قد يؤدّي إلى انهيار معنوي للحزب ببنيته التنظيمية وحاضنته الشعبية معاً. لذلك اعتبرت إيران أنّ الأولوية الآن ليس للانتقام من إسرائيل، بل لإعادة تشكيل البناء القيادي للحزب. فالمعركة الحالية بين إيران وإسرائيل تكمن في هذه النقطة بالذات. فإن فشلت إيران نجحت إسرائيل، والعكس صحيح.
تغطّي واشنطن جرائم إسرائيل وانتهاكاتها الصارخة للقانون الإنساني الدولي، ولقوانين الحرب، في خضوع مُهين لطموحات “المحافظين الجدد”
هل دخلنا العصر الإسرائيليّ؟
ما يثير الانتباه أنّ الدول الإقليمية الكبرى في المنطقة، أدركت الأبعاد الاستراتيجية لـ “طوفان الأقصى”، بمعنى مآلاتها البالغة الخطورة على المنطقة، وعليها تحديداً. فإيران، منذ اللحظة الأولى، تبرّأت من عملية حماس، وحاولت الابتعاد قدر الإمكان عن الحرب، فحاول نتنياهو توريطها، بأيّ طريقة، وصولاً إلى اغتيال نصرالله في لبنان، بعد زعيم حماس إسماعيل هنية في طهران. وإيران بعقلها الجيوسياسي البارد، تقاوم كلّ الإغراءات، لأنّها تعرف أنّ أيّ حرب مع إسرائيل ستكون حرباً مباشرة مع الولايات المتحدة، وستكون مدمّرة لإيران، وللنظام فيها. أمّا تركيا بزعامة إردوغان، فاتّخذت موقفاً بارداً بشكل غير مسبوق، واكتفى الرئيس التركي بإطلاق المواقف الرمزية دون أيّ فعّالية. لكنّه بالمقابل، حذّر من توسّع إسرائيلي نحو تركيا نفسها.
كسر قواعد اللعبة في فلسطين ولبنان، وهما الجبهتان الوحيدتان الباقيتان منذ عقد معاهدات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1979
الأمر نفسه ينسحب على مصر، التي تتوجّس شرّاً من نطاق الانهيارات الذي يحاصرها من ثلاث اتجاهات: غزة في الشرق، وليبيا في الغرب، والسودان في الجنوب. وفي كلّ هذه الاتجاهات، خيوط وتداخلات ورهانات، تصل بمجموعها إلى إرهاق مصر وإنهاكها، وإشغالها عن مواجهة التمدّد الإسرائيلي، وبخاصة مع ظهور رغبة أثيوبية بالتوسّع الجيوسياسي خارج حدودها، بدعم إسرائيلي، وسط اهتزاز الخارطة السياسية في السودان، وتعرّضه لخطر التفكّك الجدّي، وفشل الدولة الناشئة في جنوب السودان منذ انفصالها عن السودان عام 2011، بسبب الصراعات القبلية القاتلة. وهو بالمناسبة، عام انطلاق الربيع العربي الذي دمّر مقدّرات عدّة دول عربية كانت ذات مكانة استراتيجية في ميزان الأمن القومي العربي.
في خضمّ هذه التطوّرات الجسيمة، رسمت المملكة العربية السعودية خطّ الدفاع بالنسبة إليها، وهو إقامة الدولة الفلسطينية، أو ما يسمّى في الدبلوماسية الأميركية بـ “حلّ الدولتين”، علماً أنّ نتنياهو الباحث عن مجد يفوق ما أنجزه بن غوريون عام 1948، عندما أسّس دولة إسرائيل، يريد تصحيح أخطاء سلفه، بتصحيح الميزان الديمغرافي في فلسطين التاريخية. بانتظار الفرصة المناسبة لاكتمال “إسرائيل الكبرى” مهما تأخرت..
المصدر : أساس ميديا
إن فائض القوة التي حصل عليها قائد الإرhاب بحكومة الإحتلال نتNياهو من الدعم اللامحدود من أنظمة غربية والإدارة الأمريكية، جعلته يطرح رؤيته بكل عنجهية لترسيم شرق أوسط جديد، فهل تتعظ الأنظمة العربية المطبع معه أو التي تنتظر دورها للتطبيع مع هذا الإرhابي وتعرف مع من تطبع؟ أم إنها تدجنت وأصبحت متصhينة لا يهمها الأمن القومي العربي ؟.