في ذكراها: الثورة بأفق مستقبلي

أحمد مظهر سعدو

تتعين مسألة نجاح الثورات، بمدى ما تقدمه للناس أصحاب المصلحة الحقيقية في صنع هذه الثورات، وتتأسس الاستمرارية في التجاوز، والبناء، بدلالة القدرة على الدخول ضمن أساسيات البنية المجتمعية والسياسية، وتغيير الواقع، إلى واقع أفضل يتساوق بالضرورة مع مجمل ما يطمح إليه الشعب، وتلك الآمال التي ضحى من أجلها. كما أن القراءة الموضوعية اليوم لأية ثورة، تقتضي بالضرورة الإمساك بالحالة برمتها، والبحث في اللحظة التاريخية تلك، والتمكن من المعالجة وفق مسارات بعيدة عن الذاتية، بل تلج حقًا وصدقًا، في أتون وتلافيف الخلل والعثرات الكامنة فيها، كما أن عليها أن تكون قادرة أيضًا على الدخول في ماهية المتغيرات الإيجابية والانجاز الذي كانت هذه الثورة أو تلك متمكنة من تحقيقه، والبناء عليه من أجل مستقبل أرحب، يحاكي جل الأسس التي أدت إلى حالة التغيير هذه.
وإذا كنا في الذكرى 68 لثورة 23 يوليو 1952بصدد الإمساك وتلمس قراءة موضوعية علمية منهجية غير مندرجة في السياقات التطبيلية، وغير متساوقة مع سعار المديح أو السباب، فإنه يمكن القول إن هذه الثورة التي قادتها الشخصية الكاريزمية المتجسدة في جمال عبد الناصر، قد أمسكت بمتطلبات الناس منذ اللحظة الأولى، وحاولت إنجاز هذا النوع من التحرر الوطني المصري، ومن ثم العربي، مما دعا الكثيرين لوسمها لمحاولة النهضة العربية الثانية، باعتبار أن محاولة النهضة الأولى كانت مع محمد علي في مصر. وبالقياس إلى تلك المرحلة وانطلاقًا من أن التقييم يُفترض به (إن كان موضوعيًا) أن يلامس اللحظة الزمنية، وباعتباراتها التاريخية وتغيراتها، وظروفها تلك، فإن ما استطاعت تحقيقه في ظل هيمنة استعمارية بريطانية أميركية فرنسية، غير خافية، وضمن فترة زمنية قصيرة، يؤكد ويضمن القدرة على التحول من مجرد انقلاب عسكري كان من الممكن أن يشابه سواه في المنطقة العربية، إلى ثورة تغييرية مازالت تلفح وجوهنا إيجابًا وجميعًا، عبر ما استطاعت تحقيقه والبناء عليه، داخليًا وإقليميًا وكذلك دوليًا. من تطوير الصناعة، والثورة الثقافية التي مكنت كل مواطن من التعليم، والتعاطي مع الثقافة الشعبية المتاحة للجميع، والقدرة على زيادة نسبة النمو حيث وصلت مع عام 1969 إلى 9 في المئة، رغم حالة الحرب التي لم تغادر مصر ولا العرب، من خلال وجود الجسم الغريب داخل جغرافيتها، وهو (إسرائيل) المدعومة غربيًا.
كما تمكنت ثورة يوليو من إعطاء الزخم إلى دول عدم الانحياز، فكان الدور الأبرز لمصر في افريقيا بل والعالم أجمع. وإذا كان من حقنا وحق كل من يطل على تلك المرحلة بل من واجبه، أن يقف طويلاً أمام ثغرة الديمقراطية، ويرى الواقع كما هو بعين صادقة وناقدة، فإنه يمكن القول أن هذه المسألة رغم كل محاولات عبد الناصر الاشتغال عليها، إلا أنها بقيت عامل ضغط ومسلبًا لا يمكن تجاوزه إلا من خلال إعادة التفكير اليوم بمزيد من الديمقراطية، وإصرار أكثر على إعادة إنتاج الثورة الوطنية الديمقراطية، التي تعلي من شأن الدستور والقانون، وتعيد تأسيس البنية الديمقراطية التي لا تحدها حدود، ونحن كجيل عشنا ومازلنا نعيش تبعات تغييب الديمقراطية، حتى لو كانت المعركة مع المحتل ما برحت على الأبواب، ولم تغادر المنطقة. بالديمقراطية وحدها يمكن المضي قدمًا، نحو بناءات أكثر تماسكًا، ويمكن تحقيق ما يطمح إليه الناس كل الناس، اتفقنا معهم أم اختلفنا، وعينا ذلك أم لم نعيه.
ومع إدراكنا العقلاني والموضوعي للفارق الجيوسياسي والأيديولوجي والعالمي بين تلك المرحلة وواقعنا اليوم، لكن دراسة واقع ثورة يوليو بموضوعية وروية، بات مطلوبًا، ليساهم مع ساهم به الكثير من أهل الفكر والنخب التي توقفت أمام التجربة بشكل رصين وعميق، وعملت على النقد من أجل التجاوز، وعدم العودة إلى حالات الهزائم التي منيت بها أمتنا في لحظات تاريخية ما، ومنها بالضرورة هزيمة ال 67 وما أتى بعدها. ولقد تمكن على رأس هذه النخب الدكتور جمال الأتاسي وقبله الياس مرقص وياسين الحافظ، من الاطلالة النقدية الواعية على تلك التجربة، وأوضحوا بكل شفافية عثراتها، وأيضًا قدراتها على إحداث التغيير، ومازالت التجربة قائمة ومستقبلية، وتحتاج الكثير من البحث والتروي، وعدم الشيطنة، والبناء عليها من أجل مشروع الأمة كل الأمة في مستقبلات الأيام، التي مازالت غائمة ومتلبدة، ويشوبها الكثير من العثار، الذي أسهمت فيه أنظمة القهر والاستبداد الأسدية التي خطفت سورية، والغت السياسة من المجتمع، وشوهت الحالة العربية المحيطة، عبر دورها الوظيفي البائس وواضح المعالم.

المصدر: موقع الحرية أولاً

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى