ثورة 23 تموز ومشكلة الديمقراطية في مصر

بشير حنيدي

دراسة استطلاعية بطابعها العام.. ترصد المسار السياسي الذي انتهجه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لحل مشكلة الديمقراطية في مصر، منذ انطلاقة الثورة في 23 تموز 1952 إلى حين رحيله في 28 أيلول 1970..
بداية .. وللأمانة في الموقف والتزاماً بموضوعية الحديث .. لا بد من الإقرار والتأكيد : (( ان عبد الناصر قد عاش ومات تصاحبه مشكلة الديموقراطية في مصر . وان ثورة 23 يوليو 1952 تحت قيادته ، قد كانت في جوهرها ثورة من أجل الديموقراطية ، وانها قد حاولت بأساليب عديدة حل مشكلتها ، ولكنها – الى ان توفي قائد الثورة – لم تكن قد حلتها الحل الصحيح وان كانت قد اتجهت اليه )) .. هذا ما قاله الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه ” هل كان عبدالناصر ديكتاتوراً ” … وأعتقد أن هذا أصدق ما قيل عن التجربة والأقرب إلى الحقيقة .
وللاقتراب قدر الإمكان من دائرة الحقيقة لا بد من تتبع المسار الذي اتجهت إليه الثورة نحو الحل ، انطلاقاً من فهم التجربة ضمن موقعها الحقيقي في الزمان والمكان ، وسط الظروف والعوامل والإحداثيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية ، التي تفاعلت فأنتجتها أو أسهمت بإنتاجها ، وذلك لتقييمها ومحاكمتها موضوعياً وفقاً لمعايير زمانها ومكانها ، لا وفقاً لمعايير اليوم .. وتلك قاعدة منهجية عامة لدراسة وفهم أي مسألة وأي ظاهرة بأي مجتمع من المجتمعات وبأي مرحلة من مراحل التاريخ .
لقد تعددت واختلفت مفاهيم الديمقراطية في الفكر السياسي الحديث والمعاصر ، تبعاً لتعدد المذاهب الفكرية والسياسية التي تناولتها ، لهذا من الطبيعي أن تختلف المواقف من التجربة الناصرية تبعاً للمعايير التي يعتمدها أصحاب المواقف ومذاهبهم الفكرية والسياسية ، خاصة بأن التجربة لا تنتمي إلى أي من المفاهيم السائدة بأدبيات الفكر السياسي الحديث والمعاصر ….
لذلك لا بد من الاحتكام إلى جوهر الديمقراطية ومقاصدها ، بعيداً شكلياتها التنظيمية والدستورية ، وعن متاهة التباينات والتناقضات الفكرية والسياسية .. وتلك قاعدة منهجية أخرى أكثر خصوصية تتفرع عن القاعدة العامة لفهم هذه التجربة تحديداً ، تأكيداً لفهم الخاص في إطار العام .
وبهذا الاتجاه .. من حيث الجوهر ، ونحن نتحدث عن التجربة في مرحلة الخمسينات والستينات من القرن الماضي ، مرحلة التعدد في الايديولوجيات والمذاهب السياسية ، يمكن تعريف الديمقراطية بأنها أسلوب من أساليب الحكم وإدارة شؤون الدولة والمجتمع ، الذي ينتهجه النظام السياسي الحاكم في مواجهة مشكلات الدولة ، وتحقيق المصالح العليا للمجتمع ..
بهذا المفهوم .. لا يمكن أن تكون الديمقراطية نظرية أو فكرة نموذجية ثابتة ، إنما هي مسألة نماذجية متطورة مع تطور المجتمع ، تستمد مفرداتها التفصيلية فكراً وممارسة من خصوصيات الواقع الاجتماعي بكل مرحلة من مراحل تطوره .
بمعنى آخر .. لا يمكن أن يكون هناك أسلوباً واحداً للديمقراطية ، يمكن صياغته نظاماً سياسياً معيناً ، أو تمثيله بآليات مؤسساتية محددة ، وتعميمه كنموذج حكمٍ نمطي جاهز على كل المجتمعات … وبصيغة أخرى لا بد أن يختلف هذا الأسلوب بدرجات مختلفة من مجتمع إلى آخر ، ومن مرحلة إلى أخرى في المجتمع الواحد ، تبعاً لمستوى تطور المجتمع ، اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً .
وبهذا المعنى .. فالديمقراطية كما قال الرئيس الراحل جمال عبدالناصر :
(( تختلف باختلاف المستوى الاجتماعي ، فالديمقراطية في آسيا وأفريقيا هي لقمة العيش أولاً ، وهي الكساء والمسكن ، فإذا ما عز ذلك على الفرد ، فلا معنى للحرية والديمقراطية )) .
انطلاقاً من كل ما سبق ، يمكن فهم التجربة الناصرية منسوبة إلى واقعها الموضوعي زماناً ومكاناً ، واي محاولة لفهمها دون هذا المنطق هو تشويه لها وإن كان عن غير قصد .
وبهذا الاتجاه .. يمكن تتبع المسار الناصري في معالجة المسألة وفي إدارة شؤون الدولة والمجتمع منذ بداية الثورة إلى حين غياب الرئيس جمال عبدالناصر في 28 أيلول 1970 .
ضمن هذا المسار لا بد أولاً من الإضاءة الكافية حول المنطلق السياسي الذي انطلق منه عبدالناصر لمعالجة المشكلة ، بالتالي الكشف في سياق البحث عن الأبعاد الفكرية المستخلصة من واقع الممارسة والتجربة العملية بكل محطة من محطات التجربة .
أما عن المنطلق السياسي ، فقد كانت الديمقراطية هي الهدف الأول الذي قامت من أجله ثورة 23 تموز 1952 ، إذ أن مشكلة الديمقراطية من بعد مشكلة الاحتلال الانكليزي كانت تمثل المشكلة الأساسية لكل مشاكل مصر على الإطلاق في تلك المرحلة ، وهذا ما اكده جمال عبدالناصر في خطاب له يوم 26 نوفمبر 1953 :
(( إني أعلنها صريحة ، إن هذه الثورة كان هدفها الأول هو الديمقراطية .. هذا هو هدف الثورة الأول ، فإنها ثورة ديمقراطية .. ولكننا لا نريد الديمقراطية الزائفة ، نريد ديمقراطية تعمل لكم ، ومن أجلكم ، ليشعر كل إنسان أنه مصري ومتساو والفرص متساوية أمامه في هذا الوطن )) .
لهذا كان من بين الأهداف السته للثورة التي أعلنها تنظيم الضباط الأحرار مبدأ ( إقامة حياة ديمقراطية سليمة ) .
وحول طرح المبدأ بهذه الصيغة ( حياة ديمقراطية سليمة ) يقول عبدالناصر في خطابه في الاحتفال بذكرى الجلاء يوم 19 يونيو 1956 :
(( كان الهدف السادس من أهداف الثورة هو اقامة حياة ديموقراطية سليمة ، ولم نقل ديموقراطية فحسب .. فقد كنا نعيش جميعا تحت اسم الديموقراطية ، وتحت اسم البرلمان والبرلمانية ، ولكنا لم نكن نتمتع من الديموقراطية الا باسمها ، ولكن معناها وأصولها وجذورها كانت مفتقدة ، كنا لا نحس بها ، ولا نشعر بها ، وكنا نشعر ان هذه الديموقراطية ليست لنا ، ولكنها كانت علينا من أجل فئة من الناس ، فقدت الديموقراطية معناها وروحها وأسبابها ، وتحت اسم الديموقراطية تحكّم فينا الرجعيون والمستغلون والانتهازيون ، تحكمت بنا فئة قليلة كانت تتاجر بالديموقراطية .. )) .
حياة ديمقراطية سليمة :
إن طرح هذا المبدأ بهذا المضمون وبهذه الصيغة المختصرة ، قد جاء اعترافاً بوجود شكل من أشكال الحياة الديمقراطية في مصر قبل الثورة ، إلا أنه لم يكن إلا شكلاً زائفاً فاسداً ، أفسدته فئة من المخادعين الذين عاشوا لتحقيق شهواتهم ومطامعهم / كما قال عبدالناصر في 16 أيلول 1953 .
من حيث العمق والجوهر ، لم يكن إلا شكلاً أجوفاً زائفاً ، مستنسخاً من النظام الليبرالي الذي يقوم على مسرحية الحياة البرلمانية وما يتفرع عنها من فصول ومشاهد تمثيلية : ( تعددية حزبية ، انتخابات ، صحافة حرة ، تظاهرات ، احتجاجات .. وغير ذلك من مثل هذه العناوين ) .
لإدراك هذا الزيف المسرحي يكفي أن نستعرض شروط المشاركة في لعبة الانتخابات ، وصولاً إلى مسرح البرلمان المصري بفرعيه مجلس الشيوخ ومجلس النواب :
{{ .. كان يشترط في أعضاء مجلس الشيوخ أن يكونوا على سبيل الحصر من بين : الوزراء ، الممثلين الدبلوماسيين ، رؤساء مجلس النواب ، وكلاء الوزارات ، النواب العموميون ، رؤساء ومستشاري محكمة الاستئناف أو أية محكمة أخرى من درجتها أو أعلى منها ، نقباء المحامين ، موظفي الحكومة من درجة مدير عام فصاعداً سواء في ذلك الحاليون أو السابقون ، كبار العلماء والرؤساء الروحيون ، كبار الضباط المتقاعدين من رتبة لواء فصاعداً ، النواب الذين قضوا مدتين في النيابة ، الملاك الذين يؤدون ضريبة لا تقل عن / 150 / جنيهاً في العام أي / 3000 جنيه بسعر العملة الحالي / عام 1977 / ، من لا يقل دخلهم السنوي عن / 1500 / جنيه / حوالي 30,000 جنيه بسعر العملة الحالي / عام 1977 / من المشتغلين بالأعمال المالية والتجارية والصناعية أو بالمهن الحرة ، وهذا ما جاء في المادة 78 من دستور 1923 .. وكان من حق الملك أن يختار ثلث أعضاء المجلس ويعينهم تعييناً دون انتخاب .
أما بالنسبة لمجلس النواب ، فكان يشترط للترشيح ، دفع أمانة مالية مقدارها / 150 / جنيه ، أي ما يعادل / 3000 جنيه بسعر العملة الحالي / عام 1977 / ، هكذا كان يشترط قانون الانتخابات في المادة 65 منه }} / المصدر : هل كان عبدالناصر ديكتاتوراً / د . عصمت سيف الدولة ..
هذا هو البرلمان العمود الفقري في الأسلوب الليبرالي للحياة الديمقراطية في مصر قبل ثورة يوليو .. وهنا يصنع القرار ، وهؤلاء هم صناع القرار .. أما في الشارع السياسي خارج البرلمان ، فلا مانع مما تبقى من مشاهد شكلية تمثيلية ( تعددية حزبية ، انتخابات ، صحافة حرة ، تظاهرات ، احتجاجات ، … إلخ ) .. بل لا بد من كل هذه المشاهد ليكتمل إخراج المسرحية بصورة مُقنعة لطلاب الحرية والديمقراطية من المثقفين وطبقة النخبة في الشارع السياسي .
ديمقراطية من هذا النوع ، إن كانت تلبي طموحات الطبقة السياسية والنخبة الثقافية في المجتمع المصري وهم الأقلية في المجتمع مهما اتسعت دوائرهم ، فهي من حيث الأهداف والغايات ، لم تكن إلا ديمقراطية الإقطاع والرأسمالية لتحقيق مصالحهما الطبقية على حساب مصالح الأغلبية الساحقة في المجتمع .. أما بالنسبة للأغلبية فلم تكن إلا ترفاً سياسياً لا معنى له وليست بحاجة إليه .. وما تحتاجه يتجاوز ذلك كثيراً إلى أبسط حقوق المواطنة / لقمة العيش والكرامة التي أهملتها الحياة الديمقراطية الفاسدة في مصر قبل الثورة لصالح طبقة الـ ( ½ % ) المالكة والحاكمة المتحكمة بكل مقدرات مصر الاقتصادية والسياسية .
طبقة الـ ½ % :
هي جذر وأساس مشكلة الديمقراطية في مصر ، وقد تحدث عنها بلغة الأرقام الدكتور علي الجريتلي ، وهو عالم اقتصادي ليبرالي رأسمالي ، تولى وزارة الاقتصاد والمالية في بداية الثورة ، كان له موقف سلبي من عبدالناصر ومن ثورة 23 يوليو ، استقال من الوزارة ، وغادر مصر ولم يعد إليها إلا بعد وفاة عبدالناصر:
(( عدد ضئيل من الملّاك يستأثرون بنحو ثلث الأراضي الزراعية :
61 مالكاً ، يملك كل منهم أكثر من 2000 فدان ، ومجموع ملكيتهم / 277,258 / فداناً .
28 مالكاً ، يملك كل منهم أكثر من 1500 فدان ، ومجمـوع ملكيتهم / 97,454 / فداناً .
99 مالكاً ، يملك كل منهم أكثر من 1000 فدان ، ومجموع ملكيتهم / 112,216 / فداناً .
92 مالكاً ، يملك كل منهم أكثر من 800 فدان ، ومجموع ملكيتهم / 86,472 / فداناً )) .
تلك هي طبقة الـ ½ % .. ( 280 ) مالكاً فقط .. يمتلكون / 583,400 / فداناً ، أي أن واحداً من مئة ألف من مجموع الشعب المصري يملك 12 % من الأرض الزراعية في مصر )) .. وهؤلاء الـ / 280 / مالكاً في القطاع الزراعي ، بالإضافة إلى مثلهم من رجال المال والأعمال في القطاعات الاقتصادية الأخرى وأغلبهم من الأجانب ، كانوا هم عماد المنظومة المتحكمة في الاقتصاد المصري ، بالتالي هم المنظومة المتحكمة في الحياة السياسية بكل مؤسساتها الحكومية وتشكيلاتها الحزبية ، وهم صناع القرار عبر من يمثلهم تحت قبة البرلمان .
هذا هو الواقع الاقتصادي السياسي الذي جعل الديمقراطية هي الهدف الأول للثورة كما قال عبدالناصر ، وهو الواقع الذي أوحى للضباط الأحرار بمبدأ ( إقامة حياة ديمقراطية سليمة ) .
لم يكن عند تنظيم الضباط الأحرار أي تصور فكري واضح لفكرة الديمقراطية السليمة ، لهذا جاء المبدأ هدفاً عاماً غامضاً ، اتفق عليه كل أعضاء مجلس قيادة الثورة بمختلف انتماءاتهم الفكرية والسياسية .
منذ الأيام الأولى بعد انتصار الثورة بليلة 23 تموز ، بدأ الحديث داخل مجلس قيادة الثورة عن أسلوب نظام الحكم المطلوب لإدارة شؤون الدولة والمجتمع .. انقسم أعضاء المجلس إلى اتجاهين مختلفين .. وبالتصويت ديمقراطياً تعادل الاتجاهان ، فحسم صوت اللواء محمد نجيب باعتباره القائد الأعلى للتنظيم الموقف لصالح الاتجاه الرافض للديمقراطية بأي مفهوم وبأي أسلوب كان ، إلا أن عبدالناصر كان متمسكاً بما اتفقوا عليه قبل الثورة في المبادئ الستة ( الحياة الديمقراطية السليمة ) ، لهذا آثر الانسحاب والاستقالة من مجلس قيادة الثورة .. تراجع المجلس لصالح مبدأ الديمقراطية ، فتراجع عبدالناصر عن الاستقالة ، وهذا ما أكده عبداللطيف البغدادي في مذكراته ، واعترف به أنور السادات بأكثر من مناسبة .
صحيح أن مبدأ ( الديمقراطية السليمة ) جاء عاماً غامضاً ، إلا أن عبدالناصر حدد مقاصد الديمقراطية وأهدافها : ( نريد ديمقراطية تعمل لكم ومن أجلكم ، ليشعر كل إنسان أنه مصري ومتساو والفرص متساوية أمامه في هذا الوطن ) .
أما كيف ؟
فتلك مسألة لم يضع لها عبدالناصر مسبقاً أي تصور نظري واضح ، فسار عملياً بما يُعرف بـ ( نهج التجربة والخطأ ) .. انطلاقاً من الواقع .. إلى الفكر مستخلصاً من التجربة .. فإلى الواقع من جديد بفكر جديد .. وهكذا .. وفي هذا الاتجاه جاء الميثاق في ـا 21/ مايو / 1962 بعد عشر سنوات من التجربة دليل عمل فكري لعشر سنوات قادمة .. وفي مرحلة لاحقة جاء بيان 30 مارس 1968 في أعقاب نكسة حزيران ..
وذلك طبيعي جداً ، فالثورة لم تأت حركة ثورية مبرمجة فكرياً وسياسياً ، إنما جاءت انقلاباً عسكرياً ثورياً ، فرضته كخيار وحيد للتغيير المطلوب طبيعة الحياة السياسية والاجتماعية في مصر المحتلة ، بعد أن عجزت كل القوى السياسية والثورية عن القيام بمهمة التحرير والتغيير ، فجاءت الثورة بهذا الأسلوب الانقلابي كرد فعل على واقع اجتماعي سياسي محدد لا يسمح بنجاح أي أسلوب آخر ، أو جاءت كما يقول الدكتور عصمت سيف الدولة : (( تحمل من سمات القصور الفكري والتنظيمي ، ما يثبت أنها الوليد الشرعي لمجتمع ما قبل الثورة ، جاءت مضادة في الاتجاه ، ولكن كما يضاد رد الفعل الفعل بدون أن يفقد الصلة به ، بل يمكن أن يقال إن ثورة 23 يوليو 1952 كانت رد فعل ثوري على مجتمع ما قبل الثورة ، ولم تكن فعلاً ثورياً ضده )) .
وباتجاه الفعل الثوري على مجتمع ما قبل الثورة ، والتأسيس للحياة الديمقراطية السليمة ، كان على قيادة الثورة بتصور عبدالناصر ، أن تعمل أولاً على توفير المناخ الملائم للحياة الديمقراطية السليمة .. انطلاقاً من دوائر الحياة السياسية .. باتجاه الساحة المجتمعية الأشمل .. ذلك أن مشكلة الديمقراطية في مصر لا تنحصر في الوسط السياسي ومؤسساته فقط ، بل تتجاوزه على امتداد الساحة الاجتماعية ، في بلد تتجاوز فيه نسبة الأمية 80% من أبناء الشعب ، لا زال يعيش سياسياً واقتصاديا تحت وصاية الإقطاع وسيطرة رأس المال ، وقد تجسدت المشكلة لدى الغالبية الساحقة في المجتمع ( الفلاحين ) بثقافة القبول طوعاً بالخضوع والعبودية المتوارثة للسيد الإقطاعي الذي فرض سيادته على الفلاح بقوة القانون والقهر الاقتصادي .. متحالفاً مع طبقة رأس المال للإمساك بكل مفاصل الحياة السياسية في إطار النظام الليبرالي ومؤسساته التشريعية والقضائية والتنفيذية ، وهنا يكمن جذر المشكلة ، وما بعده إنما هو أعراض ونتائج ، والحل الصحيح لأي مشكلة إنما يبدأ من الجذر ..
لهذا جاء ضمن الأهداف الستة للثورة :
القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم .
القضاء على الإقطاع .
لم يأت هذين المبدأين تعبيراً عن التوجه الاشتراكي كما يبدو بمضمون كل منهما ، فقد جاءت الصياغة واضحة الدلالة تماماً ، تشير صراحة إلى ما هو دون التوجه الاشتراكي ، وإلى ما هو أبعد أيضاً .. لم يأت في الهدف القضاء على طبقة رأس المال ، إنما ( إلغاء سيطرة رأس المال على أجهزة الحكم والعمل السياسي ) ، مع الحفاظ على القطاع الرأسمالي الخاص ، والحفاظ على دوره في عملية التنمية الاقتصادية ، وإشراكه بساحة العمل السياسي ، وهذا ما قاله عبدالناصر صراحة :
( إننا لا نريد أن نقضي أو نصفي الرأسمالية ، ولكن نرى أن من واجبنا أن نراقبها ، ونعتبر أن رأس المال الوطني ضرورة لازمة في هذا الوقت من أجل تطور الاقتصاد القومي ، ولكنا يجب أن نلاحظ دائماً أن رأس المال هذا لا يتحكم في الحكم ، ولا يسيطر على الحكم من أجل استغلال الأغلبية العظمى لهذا الشعب ) .
لهذا عملت الثورة منذ انطلاقها حتى نهاية عام 1960 على دعم القطاع الرأسمالي الخاص من أجل تطور الاقتصاد القومي .. وهذا واحد من الاسباب التي عززت رفض الحركة الشيوعية في مصر للثورة ومعارضتها ، حيث اعتبرتها انقلاباً عسكريا لصالح الطبقة البرجوازية .. هذا حتى عام 1961 .
أما عام 1961 ، تأكد عبدالناصر بالتجربة خلال عشر سنوات مضت أن الاشتراكية هي المدخل الوحيد إلى الحياة الديمقراطية السليمة ، وخاصة بعد أن خذلته الرأسمالية الوطنية بعملية التنمية الاقتصادية رغم كل ما حصلت عليه من دعم قانوني ومالي .. ومنذ ذلك العام توجه صراحة نحو الاشتراكية .. فأصدر قرارات التأميم الاشتراكية الأولى في شهر تموز / 1961 .
لكن موقفه من الإقطاع كان مختلفاً منذ بداية الثورة ، موقف واضح تجسد بمبدأ ( القضاء على الإقطاع ) ، بتفكيك طبقة الإقطاع واستئصالها نهائياً في المجتمع ، لهذا جاء قانون الإصلاح الزراعي الأول ( 9 / أيلول / 1952 ) بعد شهر ونصف فقط من يوم الثورة ، والقانون حدد سقف الملكية الزراعية ب/ 200/ فدان للمالك .. ومن تم توزيع الأراضي المؤممة على الفلاحين .
لم يأت قانون الإصلاح الزراعي بدوافع اقتصادية ، لتنظيم العمل الزراعي مثلاً كما جاء في الدول الرأسمالية التي انتهجت سياسة الإصلاح الزراعي .. ولم يأت بدوافع اشتراكية كما في جاء في الدول الاشتراكية ، إنما جاء لدوافع اجتماعية سياسية ، تتمثل بإلغاء طبقة الإقطاع نهائياً ، لتحرير الفلاح من أغلال التبعية والعبودية للسيد الإقطاعي .
فالهدف من الإصلاح الزراعي ، لم يكن إلا إجراءً عملياً كبداية لحل مشكلة الديمقراطية ، بتحرير الغالبية الساحقة في المجتمع ( الفلاحين ) من أغلال طبقة الإقطاع المتحكمة بالحياة السياسية ، وهذا ما أكده عبدالناصر : (( أنتم أدرى الناس بالإقطاع وكيف يؤثر في الحياة السياسية ، إن طلبنا الرئيسي لم يكن اقتصادياً ، وإنما تحرير الفلاح من سيطرة سيده الإقطاعي )) ، فالإصلاح الزراعي كان الخطوة الأولى في مسار الحياة الديمقراطية السليمة لإلغاء طبقة السادة في المجتمع ، كحل وحيد لتحرير طبقة العبيد .
وللتأسيس دستورياً في مسار الحياة الديمقراطية السليمة ، شكّـل مجلس قيادة الثورة في 13 كانون الثاني من عام 1953 لجنة لصياغة دستور جديد للبلاد يتوافق مع ( مشروع الثورة وأهدافها ) ، وقد ضمت اللجنة نخبة ممن يمثلون مختلف مكونات المجتمع السياسية والعلمية والدينية .
وفي ساحة العمل السياسي الحزبي والتعددية الحزبية ، عندما بدأ مجلس قيادة الثورة بمناقشة دور الأحزاب السياسية في ظل الثورة ، برز اتجاهان مختلفان ، وكان رأي عبدالناصر كما جاء في مذكرات عبداللطيف البغدادي : ( يتركز حول القيام بعمل انتخابات برلمانية بعد ستة أشهر ، وأن الحزب الذي يحصل على أغلبية الأصوات سوف يتولى الحكم .. أما الرأي الآخر ، كان يرى أن الهدف الأساسي من قيام الثورة هو العمل على تغيير الهيكل السياسي والاقتصادي في البلد .. وأن الأهداف التي ارتبطت بها الثورة من قبل قيامها وأعلنتها في منشوراتها السرية لا يمكن أن توكل لغير الثورة لتنفيذها ، خاصة أن قيادات الأحزاب السياسية كانت أغلبها من كبار ملاك الأرض والرأسماليين ، ولا يمكن لتلك القيادات أن تؤمن بأهداف الثورة وأن تعمل على تحقيقها .. وسنجد أنفسنا في المستقبل مضطرين إلى الصدام مع تلك الأحزاب ، ونحن في غنى عن هذا الصدام المنتظر .. لكن جمال عبدالناصر كان متمسكاً بوجهة نظره ، تأكيداً للتوجه الديمقراطي للثورة ) .
وتأكيداً للتوجه الديمقراطي واعترافاً بالتعددية الحزبية ، أقر مجلس قيادة الثورة أن تعمل الأحزاب السياسية أولاً على تطهير كياناتها الحزبية من قياداتها ، وعلى فك ارتباطها بقوى الاستغلال الإقطاعي والرأسمالي المدعومة والداعمة للاحتلال الانكليزي ، وذلك تمهيداً لإشراكها بالحياة السياسية ، إلا أن قيادات الأحزاب تلكأت وماطلت كثيراً ، فأصدر مجلس قيادة الثورة بداية قانون إعادة تنظيم الأحزاب حتى يمكن إجراء الانتخابات البرلمانية في فبراير 1953 .. لكن الأحزاب تجاهلت القانون واستمرت إعلامياً بإطلاق الشائعات المعارضة للثورة .. فأصدر مجلس قيادة الثورة في 18 كانون الثاني 1953 إعلاناً بحل الأحزاب السياسية وحظر أي نشاط حزبي ، ( الإعلان استثنى جماعة الإخوان المسلمين ) .
ومن أجل نشر الديمقراطية ثقافة وسلوكاً وتنظيماً في الوسط الشعبي ، كان لا بد من تشكيل إطار تنظيمي شعبي ، يجسد وحدة المجتمع بعيداً عن التعددية الحزبية وحالة الصراع الاجتماعي ، تنظيم يتولى عملية توعية وتعبئة الشارع ، وتنظيم صفوفه بمعركة تحرير مصر وإجلاء المستعمر الانكليزي أولاً ، وثانياً لإشراكه بالعملية السياسية خلال مرحلة التحرير ، ولهذا جاء قرار تشكيل ( هيئة التحرير ) .
( هيئة التحرير ) .. حتى في التسمية جاءت الهيئة تحمل الهدف الأول في تلك المرحلة ، وهو المبدأ الأول من المبادئ الستة للثورة ( القضاء على الاستعمار وأعوانه ) ، أي تحرير مصر من الاحتلال الانكليزي والقوى الداخلية المرتبطة به ، لهذا فقد تولت الهيئة بشكل مباشر مهمة تنظيم الخلايا العسكرية ، وإعدادها وتأهيلها عسكرياً لخوض معركة التحرير القادمة بأسلوب حرب العصابات مع جنود الاحتلال إن فشل المسار السياسي والمفاوضات مع المحتل لتحقيق الجلاء ، وعينت قائداً عاماً للعمل العسكري وهو كمال رفعت .
وفي مسيرة التحرير بدأت المفاوضات مع الاحتلال يوم ـا 27 / أبريل / 1953 ، وما أن أحس عبدالناصر برائحة المساومة والمماطلة أوقف المفاوضات بعد عشرة أيام فقط ، وأعطى الأمر بإطلاق عمليات الكفاح المسلح ، وقامت هيئة التحرير بتنظيم أعمال المقاومة المسلحة ضد معسكرات الإنكليز في منطقة القناة ، وتحت ضغط المقاومة المسلحة على مدى عام كامل ، اضطرت بريطانيا إلى طلب استئناف المفاوضات في مايو 1954 ، التي انتهت أخيراً بإقرار اتفاقية الجلاء .
إذن ، جاءت هيئة التحرير تعبيراً عن مرحلة التحرير ، كإطار تنظيمي لحشد الجماهير وتنظيم صفوفها في معركة التحرير ، ولم تأت حزباً سياسياً بديلاً عن الأحزاب السياسية المنحلة ، أو لملء الفراغ الذي تركته الأحزاب السياسية بعد حلها كما يرى البعض ، إذ أن تلك الأحزاب لم تكن في الأساس تحتل أي مواقع في الساحة الشعبية ، لم تكن إلا منظمات نخبوية ، تعمل وتتحرك ضمن أوساط النخبة الثقافية فقط ، بقصد الوصول إلى البرلمان ومواقع السلطة ، ولم يكن لها تواجد فاعل في الاوساط الشعبية ، ولا علاقة لها بأوساط الشارع العام إلا في مراحل الانتخابات والحملات الانتخابية .
ولحشد كل المصريين بمعركة التحرير أولاً ، وتأكيداً لحق الجميع في الممارسة السياسية خلال المرحلة ثانياً ، فقد تم بناء هيئة التحرير بدون أية محددات فكرية سياسية ، لهذا فتحت أبوابها لكل المصريين أياً كانت مستوياتهم أو ميولهم واتجاهاتهم الفكرية والسياسية .
فهيئة التحرير جاءت إطاراً تنظيمياً مرحلياً خاصاً بالمرحلة ، تمهيداً لمرحلة قادمة تسمح بإعادة الحياة الحزبية على أسس جديدة ، وهذا ما جاء واضحاً بكلمته في المؤتمر السياسي العام الذي عقد في 16 سبتمبر عام 53 :
( إن هذه الثورة لن تتخلى عن مكانها حتى تحقق هدفها الأكبر ، وهو القضاء على الاستعمار وأعوانه من الخونة المصريين ، ومهما طال الأمد فهي معركة بدأناها ، ولن نعرف فيها زماناً ولا مكاناً ، حتى تتطهر البلاد من المستعمرين والخونة والمضللين والمارقين ، وعندئذ ستتعلم الأحزاب أن تنشأ على قواعد جديدة من أجل مصر وليس من أجل حفنة من الناس المضللين ) .

عبدالناصر ومشكلة الديمقراطية في مصر / ج 2
وفي 10 شباط 1953 ، صدر إعلان دستوري يُعمل به إلى حين إصدار الدستور .
أنهت اللجنة الدستورية مهمتها بصياغة مشروع الدستور في 17 كانون الثاني 1955 ، إلا أن صياغة الدستور جاءت ( بطريقة ليبرالية برلمانيةً ) ، تؤسس بشكل واضح لاستبعاد مجلس قيادة الثورة والضباط الأحرار عن الحياة السياسية .
هنا أدرك مجلس قيادة الثورة أن الأحزاب السياسية المُنحلة والقوى المتحالفة معها ، تخطط للعودة بمصر إلى ما قبل الثورة ، لهذا رفض الدستور ، لأن أهداف ومشروع الثورة لا يمكن تحقيقها عبر الديمقراطية الليبرالية التي يؤسس لها الدستور .
الأسلوب الليبرالي كما يراه عبدالناصر ، أسلوب شكلي أجوف بلا مضمون ، يركز على الممارسة ( الشكلية ) للعمل الديمقراطي ، يقتصر على التعددية السياسية وصناديق الانتخاب وصولاً إلى التمثيل النيابي فقط ، وبالوصول إلى التمثيل النيابي تنتهي المشاركة الشعبية نهائياً ، ويُستبعد الشعب عن دوائر صنع القرار بانتظار الدورة الانتخابية القادمة .. وهكذا ، ليكون البرلمان محفلاً للتحالف الطبقي بين قوى الإقطاع ورأس المال .. وإن كان من جدل ديمقراطي داخل البرلمان ، فهو صراع القوى السياسية والطبقية على المصالح .. على حساب المصالح العليا للوطن وللأغلبية الشعبية الساحقة في المجتمع … هذا هو موقف عبدالناصر من الأسلوب الليبرالي في الديمقراطية .
والموقف الشعبي لم يكن مغايراً لموقف عبدالناصر ، بل كان هو ذات الموقف ، تجلى ذلك واضحاً خلال ما عرف بأزمة مارس 1954 ، حيث ارتفعت أصوات النخبة السياسية والثقافية مطالبة بإنهاء مرحلة الثورة ، والانتقال إلى مرحلة إعادة بناء الدولة ، والبداية من عودة العسكر إلى ثكناتهم وتسليم السلطة إلى السياسيين .
ولإنهاء الأزمة فقد ناقش مجلس قيادة الثورة هذه المطالب .. قبلتها أغلبية أعضاء مجلس قيادة الثورة ، إلا أن عبدالناصر رفض واستقال للمرة الثانية من المجلس احتراماً لرأي الأغلبية .. لم تقبل الأغلبية استقالته ، فتراجعت عن قرارها ، وتراجع عن الاستقالة .
رافق حراك النخبة السياسية والثقافية خروج حشود العمال إلى الشارع رفضاً لمطالب النخبة وتمسكاً بنهج الثورة .. لم يخرجوا بإكراه من أجهزة المخابرات كما يدعي البعض ، واجهزة المخابرات لم تتشكل بعد إلى هذا المستوى .. وإن كان عبدالناصر هو الذي أخرجهم كما يدعي البعض الآخر ، فذلك يحسب لعبدالناصر لا عليه ، ذلك أن له أنصار في الشارع على هذا المستوى وهو قادر على حشد أنصاره قبل أن يتولى منصب رئيس الجمهورية ، وكان الرئيس آنذاك هو اللواء محمد نجيب حتى ـا 14 / نوفمبر / 1954 .. خرجوا دفاعاً عن الثورة ضماناً للمكاسب التي حصلوا عليها من الثورة ، حزمة قوانين وتشريعات أصدرها مجلس قيادة الثورة ضماناً لحقوق العمال وهم الأغلبية في مواجهة استغلال أرباب العمل وهم الأقلية ، ( وهذا هو المقياس الحقيقي للديمقراطية الذي تجاهلته أقلية المثقفين آنذاك ) .
استمرت الثورة ، والتف حولها العمال والفلاحون وهم الأغلبية الكاسحة ، وقاطعها المثقفون – وهم الأقلية – لمدة عشر سنوات تقريباً .
ديمقراطية المثقفين كما يراها عبدالناصر ليست إلا ترفاً سياسياً لا معنى له عند الأغلبية آنذاك ، بل هي سلعة كمالية لا تحتاجها الأغلبية .
في 16 كانون الثاني 1956 ، تم إعادة تشكيل اللجنة الدستورية ، لصياغة دستور جديد يتوافق مع مشروع وأهداف الثورة ، عملت اللجنة على صياغة دستور جديد ، يتجاوز الأسلوب الليبرالي الشكلي للديمقراطية باتجاه مفهوم جديد يركز على المضمون ، وهو مفهوم ( الديمقراطية الاجتماعية ) التي تؤسس لتحويل الدولة من مؤسسة ليبرالية سلبية ، إلى مؤسسة اجتماعية قيادية فاعلة ، وفي هذا الاتجاه كان من أبرز مواد الدستور :
التضامن الاجتماعي أساس بناء المجتمع المصري .
تنظيم الاقتصاد القومي وفقاً لخطط مركزية مدروسة تراعى فيها مبادئ العدالة الاجتماعية ، وتهدف إلى تنمية الإنتاج الوطني ورفع مستوى المعيشة .
الإقرار بحرية النشاط الاقتصادي ، بما يتفق مع المصلحة العليا للمجتمع ، ولا يخل بأمن الناس أو يعتدي على حريتهم وكرامتهم .
استخدام المال العام في خدمة الاقتصاد القومي ، ولا يجوز أن يتعارض في طريقة استخدامه مع المصالح العامة للشعب .
الاعتراف بحق التملك والحفاظ على الملكية الخاصة ، وينظم القانون أداء وظيفتها الاجتماعية .
انسجاماً مع هذا التوجه ، وبعد جلاء قوات الاحتلال وتأميم قناة السويس وصد العدوان الثلاثي ، ومع وضوح الرؤية القومية والبعد القومي للثورة ، أصبح واضحاً أن ( هيئة التحرير ) لم تعد مناسبة للمرحلة القادمة ، لذا كان لا بد من إطار تنظيمي جديد ، قادر ومؤهل لقيادة المرحلة القادمة والتعبير عن أهدافها ، وفي هذا الاتجاه جاء تشكيل ( الاتحاد القومي ) كإطار تنظيمي شعبي بديل عن هيئة التحرير ، على خلفية فكرية قومية عربية ، وهذا ما جاء في نصوص قانون الاتحاد القومي انه « منظمة عربية تعمل على تحقيق وحدتنا ووحدة الشعب العربي الذي جمعته اصول تاريخية وروحية واحدة ، وتجمعه وحدة اللغة والعقائد والتقاليد والدم والمصالح المشتركة، وحدة هذا الشعب العربي في الوطن العربي المتحرر من كل اثر من اثار الاستعمار واعوان الاستعمار ».
كان من أبرز مهام الاتحاد القومي مهمة الترشيح لعضوية مجلس الأمة ، لهذا تألف الاتحاد ممن يحق لهم الانتخاب بموجب قانون الانتخابات الذي تم تعديله لضمان أوسع مشاركة شعبية ممكنة ، على أساس :
خفض سن من يحق لهم التصويت من 21 سنة إلى 18 سنة .
إقرار حق التصويت والترشح للنساء .
التصويت ليس حقاً فقط ، بل واجباً وطنياً إلزامياً حتى سن الـ 73 سنة .
جاءت فكرة الاتحاد القومي كإطار تنظيمي شعبي قادر على التعبير عن المرحلة ، وقادر على تنظيم صفوف الشارع في إطار المشاركة الشعبية في الحياة السياسية ، ومثله مثل هيئة التحرير لم يأت حزباً سياسياً .. كذلك تنظيمياً جاء مماثلاً لهيئة التحرير مفتوحاً للجميع بصرف النظر عن المواقع الطبقية وعن الانتماءات الفكرية والسياسية ، وهذا ما سمح لفلول النظام الملكي وبقايا الأحزاب السابقة بالتسلل ، واعتلاء المناصب القيادية داخل التنظيم ، وهذا ما أفصح عنه عبدالناصر في 29 تشرين الثاني 1961 :
(( وقد رأينا في الاتحاد القومي ، أنه حدث خطأ في التنظيم ، خطأ تنظيمي وأنا قلت هذا الكلام من أول يوم ، الخطأ التنظيمي أن الرجعية ــ والرجعية كلمة نسبية ــ استطاعت أن تتسلل وتبقي لها القيادة في كثير من منظمات الاتحاد القومي … )) .
هذا هو النهج العملي الذي انتهجته الثورة بقيادة عبدالناصر لحل مشكلة الديمقراطية حتى عام 1958 ، على المستوى الشعبي ، والسياسي الرسمي ، والدستوري .
يلاحظ تماماً وجود حالة من الارتباك ، وعدم الوضوح في المسار المطلوب ، وذلك طبيعي جداً حيث قامت الثورة اعتماداً على ( منهج التجربة والخطأ ) ، ولم تكن تمتلك أية نظرية ثورية للتغيير .
وقد كان لحالة المواجهة بين الثورة من جهة والقوى السياسية المعارضة لها من جهة أخرى ، دوراً كبيراً بتصعيد حالة الارتباك ، والسبب الأهم في المواجهة كان الموقف الرافض للثورة منذ انطلاقتها الأولى من قبل كل التيارات السياسية ، وإن كان الرفض موقفاً مشتركاً بين هذه التيارات ، فأسباب ودوافع الرفض كانت مختلفة من تيار إلى آخر :
القوى السياسية المرتبطة بالقصر والاحتلال الانكليزي ، ترفض أي تغيير في الأوضاع السياسية والاقتصادية القائمة بأي اتجاه كان .
القوى اليسارية الماركسية ترى ثورة 23 تموز – باعتبارها انقلاباً عسكرياً – تدخلاً مباشراً بجدلية التاريخ ، وتعطيلاً لآلية الصراع الطبقي المحركة للتاريخ ، بالتالي شكلت عقبة أمام نضال الطبقة العاملة في صراعها مع الإقطاع والرأسمالية باتجاه المرحلة الاشتراكية وإقامة دولة ديكتاتورية البروليتاريا ، وقد جاء اعتراف الثورة بدور الرأسمالية الوطنية في عملية التنمية ، ليرسخ هذه القناعة لدى أنصار هذا التيار .
الإخوان المسلمون كانوا مع نهج التحرير ومحاربة الفساد الذي أعلنته الثورة ، لكنهم حاولوا احتواء الثورة وفرض وصايتهم عليها منذ انطلاقتها الأولى ، وعندما فشلوا ناصبوها العداء .
التيار الليبرالي الذي يتصدره الوفديون ، كان مع نهج التحرير والاستقلال والتغيير السياسي ، لكنه رفض البرنامج الاجتماعي الذي أعلنته الثورة .
أما عن التعددية الحزبية ، فلم يكن عبدالناصر معارضاً لها من حيث المبدأ ، إنما كان يعتبرها مسألة تنظيمية سابقة لأوانها في مصر حتى هذه المرحلة ، والديمقراطية الحقيقية تستوجب ما هو أعمق وأكثر أهمية من التعددية الحزبية .. وقد عبر عن ذلك بوضوح في حديثه مع الصحفي الهندي ( كارانجا ) ، يوم 10 مارس 1957 :
( إنني أريد أولاً وقبل كل شيء أن أوفر للشعب وخاصة الفلاح والعامل ، الحرية الاجتماعية والاقتصادية ، لأن الديمقراطية السياسية دون هذه الاحتياجات الجوهرية لن تؤدي إلا إلى التضليل ، وقد أعِدّ دستور 16 يناير 1956 ووافق الشعب عليه في استفتاء عام في يونيو الماضي ، وهذا الدستور يقوم على أساس جبهة متحدة ، تمثل الوحدة الوطنية التي كانت ضرورية لسلامة الثورة ، وكنا نستعد لافتتاح البرلمان في نوفمبر الماضي ، إلا أن أزمة القناة والحرب أجّـلت خططنا ، وسينفذ الدستور وينتخب البرلمان حينما تعود الأوضاع الطبيعية .. وإن الزعماء الوطنيين المخلصين سينتخبون ، وأن البرلمان سوف تقوم فيه تكتلات ومجموعات ، وربما تكون فيه معارضة في المدى الطبيعي للأحداث ، كما تبرز بعد ذلك طبعاً قوى سياسية جديدة ، ولا بد أن تكون هناك أحزاب بمرحلة قادمة ) .
مرحلة الوحدة 1958 ـ 1961 :
عندما اتسعت القاعدة الجماهيرية للثورة على المستوى القومي وتصاعد المد القومي العربي ، وعندما قامت أول دولة للوحدة العربية ، انتقلت التجربة السياسية في الإقليم الجنوبي ( مصر ) ، كما هي تماماً إلى الإقليم الشمالي ( سوريا ) ، دون مراعاة لمسألة الاختلاف في البنية السياسية والمناخ السياسي العام بين الإقليمين .
وبأول تجربة عملية في الممارسة القومية ، ونتيجة لغياب النظرية الفكرية السياسية ، لم يكن لدى الثورة تصور عملي واضح للعلاقة بين المسألتين القومية والديمقراطية ، بالتالي لم تحسن صياغة العلاقة تنظيمياً على أسس ديمقراطية بين القيادة والجماهير في الدولة الجديدة الناشئة ذات الإقليمين ، إذ نقلت الأطر التي كانت سائدة في مصر ( الإقليم الجنوبي ) إلى سوريا ( الإقليم الشمالي ) ، مع اختلاف المناخ السياسي العام ، والاختلاف الكبير في مستوى التطور الاجتماعي والسياسي بين البلدين ، وخلال مباحثات الاتحاد الثلاثي بين مصر وسوريا والعراق في آذار 1963 ، أعلن عبدالناصر أن ذلك كان من أهم الأخطاء التي سهلت عملية الانفصال في 28 أيلول عام 1961 ، إذ كان نقطة الضعف الأساسية التي مكنت قوى الانفصال من ضرب تجربة الوحدة ، وليست قوانين التأميم التي صدرت في تموز 1961 كما يرى الكثير من الباحثين .
على أية حال إذا كان للقصور الديمقراطي ، وغياب المشاركة السياسية في إدارة وقيادة دولة الوحدة دوراً في عملية الانفصال كما يرى البعض ، وإذا كانت ( سوريا / الإقليم الشمالي ) ، قد فقدت هامشاً واسعاً من الحرية السياسية الليبرالية الذي كان سائداً بمرحلة ما قبل الوحدة ، فإن الحالة في سوريا لم تكن مختلفة كثيراً عما هي في مصر ، فالشعب السوري كان يحتاج إلى ما هو أبعد من لعبة الحريات السياسية الليبرالية الشكلية ، وإلى ما هو أبعد من الديمقراطية الليبرالية الزائفة ، ديمقراطية تحالف الإقطاع ورأس المال والأحزاب السياسية المنبثقة عنه والملحقة به .
ومنذ انطلاقة الثورة حتى عام 1961 .. فقد كشف نهج التجربة والخطأ الكثير من الأخطاء من واقع التجربة والممارسة العملية ، لهذا قدم عبدالناصر تصوراً جديداً يتضمن رؤية جديدة ، تؤسس لمرحلة جديدة ، أبرز ما يميز هذا التصور هو التوجه الاشتراكي ، لقناعة عبدالناصر باستحالة الوصول إلى حياة ديمقراطية سليمة وفقاً للمفهوم الاجتماعي مع وجود الطبقة الرأسمالية في المجتمع .
التصور الجديد قدمه عبدالناصر ضمن مشروع ( الميثاق الوطني ) في 21 مايو 1962 ، ليكون دليل عمل لمدة عشر سنوات قادمة .
ولتصحيح المسار وفقاً للتصور الجديد ، لا بد من إطار تنظيمي جديد يتوافق مع توجهات المرحلة القادمة ، إذ أن الاتحاد القومي بما يضم داخله من قوى متناقضة ، أصبح يشكل عقبة في مسار التوجه الاشتراكي في المرحلة القادمة أولاً ، وثانياً في الحقيقة لم يكن تنظيماً شعبياً ، إنما كان أشبه بأي مؤسسة من مؤسسات الدولة كما قال الدكتور عصمت سيف الدولة : (( كان جزءأ من الشكل التنظيمي للحكومة ، ومؤسسة دستورية من مؤسسات الدولة ، ولم يكن تنظيمأ شعبيأ بأي معنى ، إذ كان “سلطة دستورية رابعة ” اضافها الدستور الى السلطات الثلاث كما وصفته محكمة القضاء الاداري بمجلس الدولة ، ثم انه كان تنظيمأ رسميأ لهيئة الناخبين ، بصرف النظر عن عقائدهم واتجاهاتهم ومصالحهم . )) .
لهذا كان لابد من العمل على بناء إطار تنظيمي جديد ، يكون مؤهلاً للتعبير عن المرحلة القادمة وقيادتها ، بعد أن اتضحت معالم التحول الاشتراكي ، ضمن أسس بناء الحياة الديمقراطية السليمة المنشودة .
وبعد اعتماد الميثاق الوطني ، تقرر ضمن المؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي عقد في أيار 1962 ، تشكيل تنظيم ( الاتحاد الاشتراكي العربي / تحالف قوى الشعب العاملة ) ، ويضم في عضويته كافة من أسماهم الميثاق قوى الشعب العاملة ، وهم ( العمال والفلاحين والحرفيين والجنود والمثقفين ، والرأسمالية الوطنية ) ، أي كل مكونات المجتمع عدا فلول طبقتي الإقطاع والرأسمالية الكبيرة المستغلة .
لم يكن الاتحاد الاشتراكي حزباً سياسياً أيديولوجيا ، كما كان الحزب الشيوعي الحاكم في الدول الشيوعية مثلاً ، إنما كان إطاراً تنظيمياً شعبياً عاماً ، يتولى مهمة إدارة عملية التفاعل الديمقراطي بأسلوب منظم على المستوى الشعبي بكل تياراته السياسية .
وباعتباره تنظيماً شعبياً عاماً مفتوحاً لكل التيارات السياسية ، رأى عبدالناصر ضرورة قيام تنظيم سياسي غير معلن داخل الاتحاد يمثل ( طليعة الاشتراكيين ) ، يتكون على أساس الفرز والانتقاء ، وفقاً للمواقف والسلوك ومستوى الوعي السياسي والكفاءة ، مهمته فرز قيادات الاتحاد الاشتراكي .
وتجاوباً مع هذه الرؤية ، فقد أبدى الشيوعيون في مصر قبولاً لهذا النهج ولهذه الصيغة ، فحل الحزب الشيوعي المصري تنظيمه ، كذلك فعلت الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني ( حدتو ) وهي حركة ماركسية أيضاً ، وتخلّوا عن فكرة الصراع الطبقي وديكتاتورية البروليتاريا ، وانخرطوا تنظيمياً في صفوف الاتحاد الاشتراكي ، بل ضمن طليعة الاشتراكيين داخل الاتحاد .. كما ضم الاتحاد الاشتراكي شخصيات ورموزاً أخرى تمثل اتجاهات فكرية وسياسية مختلفة ، حتى من جماعة الاخوان المسلمين .
ولضمان مستقبل الثورة ، رأى ضرورة تأهيل جيل من الشباب ثقافياً وفكرياً وحركياً لقيادة الثورة في المرحلة القادمة ، فعمل على إنشاء ( منظمة الشباب ) داخل الاتحاد الاشتراكي أيضاً .
إلا أنه قد برز لاحقاً أمام هذه التجربة بعض العقبات والأخطاء ، أبرزها تدخل أجهزة الدولة مباشرة بتشكيل تنظيم ( طليعة الاشتراكيين ) ، وذلك وفقاً لمعايير وظيفية بيروقراطية واعتبارات أخرى ، وذلك ساهم بتشويه المهمة الديمقراطية الثورية للتنظيم ، وحوله إلى سلم للارتقاء الوظيفي ، وأفقده فاعليته الثورية الطليعية المطلوبة .
ولم يكن عبدالناصر غافلاً عما يجري ، وكان يستعد للتقويم والتصحيح ، إلا أن نكسة حزيران ، والعمل على إعادة تأهيل وإعداد الجيش لإزالة آثار العدوان ، قد أعاق مهمة التصحيح .
وبعد نكسة حزيران ، في 30 مارس 1968 ، أصدر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ، ما عرف بـ ( بيان 30 مارس ) .
جاء البيان تمهيداً وتشريعاً لمرحلة جديدة ، منطلقاً تأسيسياً لتصحيح الأخطاء السياسية والإدارية لنظام الثورة ، لإطلاق عملية جادة لإعادة ترتيب البيت الداخلي سياسياً وتشريعياً وإدارياً على اسس جديدة ، تسهم بتجاوز أخطاء الماضي وسلبياته أولاً ، وثانياً بترسيخ ما حققته الثورة من إنجازات ، بداية لتحول نوعي من مرحلة الشرعية الثورية إلى مرحلة الشرعية الدستورية الديمقراطية ، لوضع حجر الأساس لدولة المؤسسات على اساس دستور دائم يتوافق مع مستوى التطور الذي أنجزته الثورة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ، ومع تطلعات النخبة الثقافية والقوى السياسية بنظام حكم جديد على اسس جديدة أكثر انفتاحاً وديمقراطية .
طرح البيان تصورات سياسية ودستورية جديدة ، تؤسس لتأكيد الصلة الوثيقة بين الحرية الاجتماعية والحرية السياسية ، وتوفير الضمانات الدستورية للحرية الشخصية وحرية الرأي والفكر والنشر والصحافة ..
أخيراً :
بصرف النظر عن المواقف المختلفة من التجربة .. هذا هو الأسلوب الذي انتهجته ثورة 23 تموز لحل مشكلة الديمقراطية في مصر ….. التجربة مع كل سلبياتها ، قد تمكنت بجدارة من إحداث تحول نوعي بتاريخ مصر الحديث ، وتمكنت من تحقيق إنجازات لا ينكرها عاقل من خصوم ومعارضي الناصرية .
وحول ما قال المعارضون والخصوم لنا كلمة :
إن كانت المركزية مأخذاً على السياسة الناصرية كما يرى البعض ، فإن المشروع النهضوي الذي تبنته الناصرية ، لا يمكن تنفيذه بدون هذا القدر من المركزية في السلطة .. وإن طبيعة الصراع على المنطقة في تلك المرحلة – وعلى مصر وبشكل خاص بعد أن تبنت المشروع القومي العربي وتبوأت موقع القيادة بحركة التحرر القومي العربي – لا يمكن إدارتها بدون هذا القدر من المركزية في السلطة .
وإن كانت قيادة عبدالناصر ( الزعيم ) ، تمثل مظهراً من مظاهر الاستبداد والديكتاتورية كما يدعي خصومه ومعارضوه ، فزعامة عبدالناصر أولاً لم تأتِ شذوذاَ عن طبيعة المرحلة على مستوى العالم ، مرحلة كان عنوانها الأبرز ” مرحلة الزعماء ” ، وكان عبدالناصر على مستوى العالم من أبرز زعماء المرحلة .. وثانياً وهو الأهم ، زعامة عبدالناصر لم تأتِ شذوذاَ عن طموحات الأمة وثقافتها على مدى قرون وقرون إيماناً بمكانة ودور الزعيم .. أجيال وأجيال على مدى قرون حتى على مستوى الكثير من النخبة ، لم تكن تعرف آنذاك من أساليب الحكم المطلوب إلا نظرية المستبد العادل ، بحثاً عن حاكم يحكم بالعدل بين الناس منحازاً إلى الفقراء والمظلومين ، ويعيد للأمة شيئاً من كرامتها .. والغالبية الساحقة قد وجدت أخيراً في شخص عبدالناصر هذا الحاكم ، وقد توافرت في شخصه من مؤهلات الزعامة ما لا يتوافر بأي حاكم آخر ..
وإن كانت التجربة خروجاً عن مفاهيم وأساليب الديمقراطية المعروفة بمرحلتها ، فقد جاءت متوافقة تماماً مع نمط التحول الديمقراطي في الكثير من دول العالم آنذاك ، باتجاه مفهوم ( الديمقراطية الاجتماعية ) ، وهو المفهوم الذي تبناه طلائع الفكر السياسي في المجتمعات التي أنهت لتوها معارك تحررها الوطني واستقلالها ، ذلك التحول الذي تمحور حول وظيفة الدولة ، وتحولها من موقع السلبية الليبرالية إلى موقع الإيجابية الاجتماعية ، بقصد الدفع بعملية التنمية وإعادة بناء الدولة والمجتمع بعد إنجاز مهمة التحرير والاستقلال .. ، وذلك يحسب للناصرية لا عليها ، إذ أنه يعتبر من أبرز معايير التقدمية آنذاك ، والتقدمية مسألة نسبية خاضعة لاعتبارات الزمان والمكان .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى