إليف شافاق روائية تركية متميزة جدا . قرأت أغلب رواياتها.
جزيرة الاشجار المفقودة رواية إليف شافاق الجديدة تتابع موضوعا مهما وذي ارتباط وثيق بما يعانيه كل الذين عاشوا ضحية الاستعمار أو الاستبداد في بلادهم. مثلنا نحن السوريين. وادى ذلك الى صراع ومن ثم لجوء وتشرد. ومرت السنين وصارت هناك متغيرات على حياة من لجأ خارج بلاده ومن بقي داخلها…
تتناول إليف شافاق في روايتها جزيرة الاشجار المفقودة حال الذين هربوا من قبرص التي كانت في الخمسينات جزيرة موحدة وتحت الاستعمار البريطاني وحصلت صراعات عرقية دينية. بين المسيحيين اليونانيين المدعومين من اليونان. والمسلمين الاتراك المدعومين من تركيا حصل صراع وادى لتقسيم الجزيرة إلى قسمين أحدهما يوناني والاخر تركي وأصبحوا دولتين ولهم من يعترف بهم…
تتابع الرواية الحدث في قبرص عبر رصد حياة حبيبين كازانكس المسيحي اليوناني ودفنه المسلمة التركية الذين يعيشون في جزيرة قبرص قبل التقسيم ويحبان بعضهما. وكانا يلتقيان بالسر. لان علاقاتهما مرفوضة من أهلهما لاختلاف الدين والإثنية. ومع ذلك استمروا يلتقون وهم بسن المراهقة. يلتقيان في حانة يديرها اثنان يوناني وتركي. وكانا يتفهّمان حب كازانكس ودفنه ويتسترون عليهم.
تطورت العلاقة ليحصل تواصل جنسي بينهما. ومن ثم تحصل متغيرات في عائلة كازانكس حيث يموت أخوه الأكبر في بداية الصراع التركي اليوناني بين مجموعات عسكرية من الطرفين. خاصة ايوكا اليونانية ويختفي أخاه الأصغر. فتبعث ام كازانكس لاخيها في انجلترا ليأخذ ابنها المتبقي لها إليه. ويذهب كازانكس ويترك دفنه في الجزيرة. على أنه سيعود بعد وقت قريب. لكن تطورات الصراع في الجزيرة تمنعه من العودة لفترة طويلة…
الرواية تعتمد بفصولها التحدث عن قبرص في الخمسينات وفي بداية الالفية الجديدة وفي نهاية العقد الثاني للألفية الجديدة.
الزمن المعاش هو نهاية العقد الثاني من الألفية الجديدة حيث تعيش ادا الفتاة المراهقة ابنة دفنه وكازانكس في انجلترا حيث توفيت أمها دفنه قبل وقت وجاءت إليهم خالتها مريم من قبرص بعد ان توفي والدها ووالدتها وأصبحت متحررة من أي التزام عائلي…
تعود الرواية بفصولها المتتابعة لتحكي قصة جزيرة قبرص قبل التقسيم و تعايش الناس مع بعضهم. وإن فعل التقسيم كان نتاج مجموعات مسلحة عنصرية مدعومة من قوى إقليمية خارجية اليونان هنا، قامت بعمليات قتل وخطف. ومن ثم تدخلات عسكرية من الدولتين التركية واليونانية انتهت إلى تقسيم قبرص لدولتين يونانية وتركية. ومع ذلك استمروا دفنه المسلمة التركية وكازانكس المسيحي اليوناني بحبهما وبعد هرب كازانكس الى انجلترا وعدم عودته الذي امتد لخمس وعشرين عام. حيث اعتبرت دفنه أنه خانها وتخلى عنها. وهو لم يتلق أي إجابة عن رسائله من قبلها واعتقاده أنها تخلت عنه. هو استمر يتبحر في موضوع الأشجار حياتها وصفاتها وظروف عيشها. اصبح باحثا وينتقل في بلدان العالم يتابع أبحاثه وأصبح له كتبه. وهي تابعت الاهتمام بقضية المخطوفين أيام الحرب قبل عقود والبحث عنهم في الجزيرة من الطرفين اليوناني والتركي واعادة ما تبقى من رفاتهم لاهلهم حتى يغلقوا ملف أبنائهم واهلهم المفقودين. ولكن وبعد مضي حوالي العقدين التقى كازانكس بأحد الأطباء الإنجليز من الذين كانوا في جزيرة قبرص واخبره انه يعرف دفنه وأنه التقى بها وهي حامل قبل عقدين وأنها حاولت الاجهاض ولم تفلح. عندها أدرك كازانكس أنه مسؤول عن هذا الحمل وأن عليه العودة الى قبرص ليلتقي بدفنه ويعرف اخبارها. وبالفعل عاد إلى الجزيرة. والتقى دفنه وعادا إلى حكايات الماضي وعلم منها انها انجبت طفلا اسمته يوسف. وأنها أعطته الى عائلة بريطانية كانت تسكن في الجزيرة أيام الاحتلال الإنكليزي. عاش الطفل سنة وتوفي بجرثومة أصابت الكثير من الأطفال أدت لوفاتهم في جائحة حصلت وقتها في قبرص. بعودة كازانكس الى قبرص ولقائه دفنه عاد الحب بينهما لما كان عليه. و قررا ان يتزوجا وأن يغادرا قبرص إلى انجلترا. وهكذا حصل كانت ادا ابنتهم التي حبلت بها أمها بعد عودتهما الى انجلترا. والتي ولدت ولم يخبروها بحكايتهم الكاملة. والتي علمت تفاصيلها بعد ذلك من خالتها مريم التي جاءت اليهم بعد مضي أكثر من عقدين من سفر والدتها ووالدها الى انجلترا. وهي الآن فتاة في سن المراهقة. تحس بغصة عدم ادراكها لماضيها وتاريخ عائلتها. تعاني من التنمر في المدرسة ومن غياب تجارب العلاقة بينها وبين أي صديق من الذكور. لديها ما تعاني منه أنها غير محبوبة من محيطها. كما انها ارتبكت بأحد الدروس أمام المعلمة وصرخت بأعلى صوتها. وصوّرها احد زملائها ووضعها على النت وأصبحت حكاية يتناقلها الكل عبر هواتفهم وزادت معاناتها. ولكن زيارة خالتها لها وإعادة ملئ المعلومات التي كانت قد فاتتها عن تاريخها العائلي أعاد التوازن نسبيا الى نفسها. فقد كان والدها ووالدتها قد اتفقا أن لا يخبراها عن ماضيهم شيئا وهم يعتقدون أنهم يحمونها من معاناة ما عاشوه في قبرص ثم مجيئهم الى انجلترا. بينما ادى ذلك لنتيجة عكسية احست ادا من خلالها انها بلا جذور وتكاد تكون لا شيء . بمجيء مريم خالتها واحتضان والدها عاد التوازن النفسي الى ادا وبدأت تعرف ذاتها وأصولها وجذورها البعيدة…
في الرواية ايضا اهتمام ومتابعة لعالم الاشجار والنبات والحيوانات والطيور المهاجرة وحتى الفراشات. وهناك تينة تقوم بدور الراوي في فصول الرواية. التينة السعيدة التي تحت فروعها بنى يوسف وصديقه اليوناني حانتهما وكان تحت ظلها يلتقي كازانكس ودفنه. وفي الحانة حصل أول اتصال جنسي بينهما ادى للحمل بيوسف الطفل الذي توفي عن عمر سنة. هذه الحانة التي دمرها المتصارعون. وقتلوا يوسف وشريكه اليوناني لاشتباه ان بينهما علاقة مثلية. الشجرة التي ماتت في بلادها من الإهمال ومن الأوبئة والأمراض والقوارض. لذلك قرر كازانكس ان يأخذ غصنا منها ويعيد زراعته في انجلترا الباردة. وهكذا حصل ونجحت النبتة بالعيش. وهو يعيد دفنها في التراب في فصل الصيف البارد حفاظا على حياتها…
في الرواية تبحر في عالم الحيوان والطيور والنبات والأشجار بشكل موسوعي. ممتع يجعلنا امام ابداع اخر متميز لإليف شافاق.
تنتهي الرواية عندما تعود الخالة مريم الى جزيرة قبرص وقد أدت أمانة توضيح كل ما خفي عن حياة كازانكس ودفنه والد ووالدة ابنه اختها اذا. ومحاولة ادا أن تنغرس في مجتمعها الانجليزي الجديد وان تجد من يحبها وتحبه.
في التعقيب على الرواية اقول:
الرواية مكتوبة بخلفية نبيلة وإنسانية تريد ان تقول ان قبرص المقسمة الآن الى دولتين وهما في علاقة حسن جوار . لم تكن فيها أي ارضية للعداوة لولا فعل المستعمرين والمتعصبين. واستغلال الاطراف الاقليمية ذلك لحصول تقسيم للجزيرة لوصولها لواقعها الحالي.
كذلك تفتح الرواية موضوع اللاجئين هربا من الحروب في بلادهم وكيف وصلوا الى كل الدنيا كما حصل مع كزانكس وزوجته دفنه الذين هربا الى انجلترا، وابنته ادا التي ولدت في بلاد الغربة وتعيش معهم هناك.…
كذلك تتابع الرواية أنه بعد نصف قرن عاد القبارصة في الدولتين التركية واليونانية للتنقيب والبحث عن المقتولين والمختفين والغير معروف مصيرهم بدأب واهتمام بالغ. ولسان حالي يقول في أي وقت ستنتهي مشكلة السوريين ويسقط الاستبداد وتبدأ مرحلة توثيق دقيق لكل مقتول ومعتقل ومفقود واستخراج الجثث المطمورة والمصورة في أماكن سرّية. كما تحدث عنها قيصر و سيزر وغيرهم. لإعادة الاعتبار الإنساني لهم ويحولوا الى جزء من الذاكرة دليل ادانة على النظام المستبد المجرم القاتل وإن محاسبته حتمية ولو بشكل رجعي ولو بعد حين. وان تحصل محاكمات وان نصل الى عدالة انتقالية منصفة بشكل من الأشكال…
مازال طريقنا طويلا قياسا بما حصل في قبرص. فما زلنا نحن السوريين ضحية الاستبداد والقهر والقتل والتشريد. ومازلنا نناضل لتنتصر ثورة شعبنا التي طالبت بالحرية والكرامة وتحقيق العدالة وبناء الدولة الديمقراطية…
إنه أمل منشود رغم كل العقبات التي مازالت تمنع تحقيقه.
قراءة ممتعة للرواية مع مداخلات ناجحة وتعقبب جميل.. بالتأكيد لغة أليف شافاق غنية وثرة ولاسيما إذا توافرت الترجمة الأدبية الممتازة…..
عافك الله ووفقك صديقي الجميل