الثورة انفجار مجتمعي نتيجة استبداد السلطة، وسد جميع النوافذ في وجه الشعب للإصلاح، هي فعل اضطراري وليس اختياري، كما أنها فعل غير شرعي (قانوني) إذ إنها فعل خارج المنظومة القانونية الاستبدادية، لذلك سيكون هدف الثورة الأول تغيير تلك المنظومة القانونية التي أصبحت أداة بيد المستبد لقوننة استبداده وظلمه.
ولأن الدستور يأتي على رأس المنظومة القانونية، فمن الطبيعي أن يرى غالبية الفقه الدستوري أنه يسقط تلقائياً بمجرد نجاح الثورة.
لذلك لا غرابة أن تكثر الندوات والورشات والتصريحات عن دستور سوريا بالمستقبل، أملاً بقرب النهاية والبدء بمرحلة انتقالية.
وفي زمن الثورات والصراعات الداخلية، وتغييب سلطة الدولة، وتفتيتها إلى سلطات متناثرة، من الطبيعي أن يبحث الإنسان عن حماية مؤقتة من مكونات ما قبل الدولة من سلطات مناطقية وعشائرية وطائفية، لكن غير الطبيعي أن يعتقد ذلك الإنسان أن هذه السلطة دائمة وباقية، ويعمل على خلق تصور يضمن بقاءها، وهي عاجزة عن البقاء بطبيعته لأنها سلطة ضرورة، وناتجة عن ظروف استثنائية، ويجب أن تقدر تلك السلطة بمقدار الضرورة، وتزول بزوال الظروف الاستثنائية.
ولأن “الثورة السورية” ليست استثناء من هذا الأمر، ولإطالة أمد الصراع الذي نتج عنه سلطات أمر واقع متوزعة على كامل الجغرافية السورية، بما فيها سلطة الدولة التي عمل النظام الأسدي بسياسته الرعناء على تحويلها لسلطة أمر واقع على جزء من الجغرافيا والشعب السوري، وأطلق عليها بغباء سياسي “سورية المفيدة”.
في ظل هذا الواقع الاستثنائي والمؤقت، توهم بعض السوريين بديمومة تلك السلطات، أو تجميعها في دولة محاصصة، ولأن مثل هذه الدعوات المشبوهة تحتاج إلى أيديولوجية وشعارات يختبؤون خلفها، نجد من تلطى تحت الشعارات الدينية يدعوا إلى إقامة “كيان سني” في إدلب معتقداً ديمومة سلطة الجولاني المؤقتة، ومتوهماً بأن السنة السوريين داعمين لمثل هذا الكيان، وجاءت الردود من الجميع رافضة مثل هذه الدعوات المشبوهة.
وهناك من تغطى تحت بريق شرعة حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، ليدعو إلى دولة محاصصة طائفية في سوريا المستقبل، وهذه الدعوة نتجت عن ورشات عقدها المركز السوري للأبحاث والدراسات القانونية وأخرج لنا مقترحا بعنوان “دستور سوريا لعام 2024” والذي سنقف معه-بمقالات متتالية- برؤية نقدية وتحليلية، لكن قبل الدخول بتفاصيل هذا المقترح الدستوري، لا بد لنا من وقفة سريعة عن تطور إدارة التنوع في المجتمعات الديمقراطية.
نصت الدساتير الديموقراطية على المساواة التامة في الحقوق والواجبات ولا يمكن أن يسود أي نوع من التمييز بسبب الأصل، أو العرق، أو الجنس، أو الدين، أو الرأي، أو بسبب أي اعتبار آخر أو وضع شخصي أو اجتماعي.
أولاً-المجتمع الدولي والأقليات من الحماية إلى المواطنة
لا توجد دولة معاصرة اليوم صافية العرق وموحدة الدين والمذهب، وجود التنوع هو من طبيعة البشر، ومن السياقات الطبيعية لنشأة الدول، لكن التعامل مع ذلك التنوع لم يكن بهذا الشكل الذي نراه اليوم، فقد عانت الأقليات بمختلف أشكالها من اضطهاد تاريخي كبير.
ومسألة الأقليات تعتبر من القضايا المعاصرة إذ أثيرت مسألة حقوق الأقليات لأول مرة عام 1814 في مؤتمر فيينا، الذي ناقش مصير اليهود الألمان، وأن تضمن بعض الدول التسامح والحماية لهم، لكن النتيجة جاءت عكسية ونتج عنها تمييز منظم في المعاملة.
نظمت اتفاقية باريس التي أبرمت في 3 مارس 1856 بعض الحماية للأقليات. لا سيما للدولة العثمانية التي كان يجب عليها التعهد بتحسين أحوال الرعايا المسيحيين في البلقان، واعترف السلطان العثماني بالمساواة التامة بين جميع رعاياه على اختلاف مذاهبهم وأديانهم.
كما أكدت معاهدات عام 1919 على حق الأقليات الدينية والعرقية واللغوية في حرية ممارسة شعائرهم الدينية، واستعمال لغتهم الخاصة بهم، والمساواة والتمتع بالحقوق المدنية والسياسية، والحقيقة أن هذا النظام فشل لأسباب عديدة منها عدم رضوخ الدول الكبرى، واستخدامه من بعض الدول لأغراض التدخل في شؤون الدول الأخرى، والنقطة الأهم ارتباطه بنظام عصبة الأمم التي تم إلغاؤها.
في حين اكتفت اتفاقيات الحرب العالمية الثانية بفرض المساواة، وتمتع جميع الرعايا بحقوق الإنسان والحريات العامة.
لتنشأ الأمم المتحدة وتولي هذه القضية المزيد من الرعاية والاهتمام، وتوج هذا النشاط في إعلان حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية وإلى أقليات دينية ولغوية في الجلسة العامة للأمم المتحدة رقم 92 تاريخ 18 كانون الأول 1992 والذي أوجب على الدول أن تقوم بحماية وجود الأقليات وهويتها القومية أو الإثنية، وهويتها الثقافية والدينية واللغوية، وبتهيئة الظروف الكفيلة بتعزيز هذه الهوية والحق بإنشاء روابط خاصة بهم.
أما لجهة الدساتير الديموقراطية فقد نصت على المساواة التامة في الحقوق والواجبات ولا يمكن أن يسود أي نوع من التمييز بسبب الأصل، أو العرق، أو الجنس، أو الدين، أو الرأي، أو بسبب أي اعتبار آخر أو وضع شخصي أو اجتماعي، وطبقت هذه المساواة بشكل فعلي على الواقع، فلم تحتج لنصوص في دساتيرها لا للأغلبية ولا للأقلية معتمدة على دولة المواطنة وحياد الدولة.
ثانياً-الديباجة وشعارات شرعة حقوق الإنسان
بعد هذه التوطئة نعود لمقترح المركز السوري للأبحاث والدراسات القانونية “دستور سوريا 2024” من الطبيعي أن يبدأ الدستور بديباجة توحي لنا بالالتزام بشرعة حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية الناظمة لها، وهذا حال جميع الدساتير سواء كانت مقترحات أم دساتير نهائية-حتى دساتير الأسد- لكن الحقيقة أن الجميع يدعي وصل ليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا. كأن هناك انفصاما عند أغلب النخب السورية الدينية والليبرالية والاشتراكية والقومية بين الشعارات وتطبيقها، حتى لا نكون ممن يؤمنون بشعارات من دون تطبيق، ولا من الذين يصدرون الأحكام من دون مناقشة وتحليل، سنقف مع هذا المقترح الدستوري عند أهم المفاصل التي تحدث بها.
ثالثاً-الحقوق والحريات
وردت تحت عنوان الحقوق الأساسية موزعة على واحد وثلاثين مادة، لو دققنا باختيار العنوان “الحقوق الأساسية” ، هنا الدستور يوحي لنا بحالة تفاضلية بين الحريات، والتفاضل بين الحريات يقود لتغييب بعضها على حساب بعضها الآخر، وهناك تجارب مريرة مع الدول التسلطية، حيث عمدت أنظمة الاستبداد إلى إنتاج خطاب تفاضلي بين حقوق الإنسان، الهدف منه الحد من الحقوق التي تراها هذه الأنظمة خطيرة على استمرارها، وهو ما تعمده نظام “الأسد الأب” حيث أعلى من حق التعليم والصحة على حساب حق المشاركة السياسية، لأن المشاركة السياسية خطر على وجود النظام بينما حق التعليم والصحة لا أثر لها عليه.
وهذا ما دفع الفقيه الفرنسي ” RIVERO” لرفض مصطلح “الحقوق الأساسية” الكلاسيكي، لأنه يقحم ضمن حقوق الإنسان فكرة التفاضلية، والحال إن جميع الحقوق هي في النهاية حقوق أساسية، بمعنى أنهّا ضرورية في تكاملها لتحقق الذات الإنسانية، وضمان احترامها.
الصياغة الدستورية لبعض الحقوق لم تستفد من الصياغة المعاصرة، ولا من التجارب السابقة التي مرت على السوريين بسرقة حقوقهم.
1-إغفال بعض الحقوق
أما لو تتبعنا مضمون ماورد من الحقوق والحريات لوجدنا إغفال بعض الحقوق الضرورية والتي لم تنص عليها الدساتير السابقة منها حق السكن، الذي يعد من الحقوق الأساسية المعاصرة بشكل عام، وللسوريين الذين فقدوا منازلهم بشكل خاص، وحق تكوين أسرة وحق الأطفال بالرعاية الاجتماعية، والحق بالتنقل جاء قاصراً على الحماية داخل سوريا، مع أن الواقع السوري ينبئنا بحرمان الكثير من السوريين من مغادرة سوريا أو العودة إليها لأسباب أمنية، حقوق الأجانب التي نصت عليها كثير من الدساتير ومنها الدستور الإسباني، والحق في بيئة نظيفة وغيرها من الحقوق التي تم إغفالها.
كما أن الصياغة الدستورية لبعض الحقوق لم تستفد من الصياغة المعاصرة، ولا من التجارب السابقة التي مرت على السوريين بسرقة حقوقهم، على سبيل المثال حق الملكية الوارد في المادة 17 وحق المشاركة السياسية الوارد في المادة 22 فقد فوض المشرع الدستوري المشرع العادي بتنظيم وتأسيس الأحزاب ليتشابه هذا المسلك مع دستور الاستبداد السوري لعام 2012 الذي فوض المشرع العادي تفويضا مطلقا أدى لسرقة هذا الحق، ومنع تشكيل الأحزاب على أساس ديني أو قومي أو طائفي، وأنشأ مجلس شيوخ من الطوائف والقوميات لحكم الدولة، تناقض رهيب ما بين النصوص ذاتها، ولا أريد أن أطيل، إذ يمكن معالجة كل مادة من هذه المواد بمقال مستقل.
2-غياب ضوابط الحريات
ولأن الحرية لا تسبح في فضاء خارجي، بل تسير على الأرض، والواقع يفرض عليها أن تحدد، لأنها تصطدم بالنظام العام أحياناً، أو بقيم المجتمع الديمقراطي حيناً آخر.
ولا توجد اتفاقية ناظمة لحقوق الإنسان أو دستور دولة لا ينص على هذه الضوابط ليحد من فضاء الحرية إما لأجل حرية أخرى، أو احتراما لقيم المجتمع الديمقراطي، كل ذلك حتى تدور الحقوق والحريات في فلك النظام العام، ولا يؤدي انفلاتها لفوضى صراع تصيب المجتمع بدلاً من سلام يؤدي لإعماره.
فصل الحقوق الأساسية يؤكد لنا ما ذكرناه في المقدمة أن رفع الشعار شيء والتطبيق شيء آخر.
وقد عرفت الاتفاقيات الدولية والنظم الدستورية المعاصرة ثلاثة طرق لتحديد الحقوق والحريات:
الطريقة الأولى: التحديد الخاص وتتمثل في إيراد كل حق من الحقوق التي يضمنها الدستور أو المعاهدة الدولية بجملة من الضوابط الخاصة به، والتي تتعلق به لا بغيره تبعاً لمحتواه وخصوصياته، واتبعت هذه الطريقة في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والدستور الألماني.
الطريقة الثانية (المادة الجامعة): وتقوم على إيراد مادة ضمن الدستور وعلى الأغلب ترد في نهاية فصل الحقوق والحريات، تتضمن الضوابط التي تنطبق على جميع الحقوق والحريات وهي الطريقة التي اعتمدها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ودستور جنوب أفريقيا ودستور تونس.
الطريقة الثالثة (التحديد المزدوج): تعتمد هذه الطريقة على المزاوجة بين المادة الجامعة والتحديدات الخاصة، أي توجد مادة جامعة، ولكنها لا تمنع من إيراد تحديدات خاصة لبعض الحقوق. مثل ميثاق الاتحاد الأوربي للحقوق الأساسية الذي نص في المادة 52 على ضوابط شاملة وأورد ضوابط تخص بعض الحقوق.
ونتفق مع الفقيه الدستوري “ISRAEL” على أنه “لا يمكن إلا في تصور طوباوي خطير على الحرية نفسها اعتبار الحريات غير قابلة للتحديد”.
بالعودة للدستور موضوع المقالة، ولأن واضعي “مقترح الدستور” أكدوا لنا في المقدمة أنهم سيعملون على الاستفادة من شرعة حقوق الإنسان، ومع ذلك لا نجد أي طريقة من الطرق الثلاث السابقة الخاصة بضوابط الحريات في مقترح دستورهم، وقد أوردوا المادة 31 التي تمنع استغلال بعض الحقوق لمحاربة النظام الديمقراطي والدستور، وبالتأكيد ليست هي مادة الضوابط بين الحريات عند تصادمها، وذلك أن ممارسة الحقوق والحريات من دون ضوابط من شأنه أن يخلق فوضى اجتماعية يغدو معها التصادم بين الحقوق والحريات سبيلا إلى نفيها جميعاً.
فصل الحقوق الأساسية يؤكد لنا ما ذكرناه في المقدمة أن رفع الشعار شيء والتطبيق شيء آخر، ففي ميدان الحقوق والحريات، جاء المقترح الدستوري متغافلاً عن بعض الحقوق، ومقلداً دساتير الاستبداد في صياغة بعضها، ونسي أن يضبطها بضوابط متعارف عليها في الدول الديمقراطية، ولنا وقفة تحليلية قادمة مع نصوص المبادئ التي اختارها المقترح الدستوري.
المصدر: تلفزيون سوريا