تونس وعودة الشارع مجدّداً

المهدي مبروك

خرج يوم الجمعة الماضي آلاف المتظاهرين في أكثر شوارع العاصمة أهمّيةً، مندّدين بحالة الحرّيات التي وصلت إليها البلاد، رافعين شعاراتٍ جريئةً خِلنا أنّها اختفت منذ مدّة غير قصيرة. خرجت هذه التظاهرة إثر دعوة أطلقتها شبكة جمعت منظّمات وجمعيات حقوقية وطيفاً مدنياً واسعاً، فضلاً عن ائتلاف حزبي يجمع بعض تيّارات اليسار الوسطي. توقيت انتظام هذه المظاهرة مهمّ، فهي تتزامن مع انطلاق الحملة الانتخابية بشكل رسمي، وكأنّها تعلن أنّ هذه الحملة لا تعني الناخبين إلّا على قاعدة استعادة الحرّيات التي سلبها النظام منذ انقلاب 25 يوليو (2021).
يطمح المنظّمون إلى أن تتواصل هذه المظاهرات وتعمّ كاملَ تراب الجمهورية في الأسابيع الثلاثة المتبقّية من الحملة، وستكون (إن نجحت) شكلاً مهمّاً من أشكال التعبئة الانتخابية المُحتجَّة على الرئيس قيس سعيّد بشكل رئيس، وهي في الآن ذاته حرصت على استبعاده بشكل سلمي من خلال صناديق الاقتراع. كذلك تأتي هذه المظاهرة بعد يوم من سلسلة اعتقالات واسعة شملت عشراتٍ من أنصار حركة النهضة، تحديداً من القيادات المحلّية، علاوة على مجموعاتٍ منهم لا تزال تنشط في نطاق متابعة مسألة العدالة الانتقالية، وهي التجربة التي تعثّرت ولم تدرك جُلَّ أهدافها، خصوصاً بعد إيقاف رئيس هيئة الحقيقة والكرامة، سهام بن سدرين، منذ أسابيع قليلة.
أكثر الأشياء “عدلاً” في عهد سعيّد هي الاعتقالات التي توزّعت بين جُلّ الطيفين، السياسي والمدني، بعد أن توهّم بعضهم أنّها لن تطاول إلّا “النهضة”، غير أنّها توسّعت لاحقاً لتشمل (من دون استثناء) العائلات السياسية كلّها، وإنْ بدرجات متفاوتة. طاولت التوقيفات مثلاً أحزاباً أخرى ومنظّمات وجمعيات كانت من أشدّ خصوم حركة النهضة في أثناء عشرية الانتقال الديمقراطي الموؤود. تجاوزت الاعتقالات الأحزاب والجمعيات المستقلّة لتطاول إعلاميين ومحامين ومدوّنين، ولعلّ المحامية والإعلامية سنية الدهماني مثال دالّ على ما وصلت إليه حالة التضييق على الحرّيات.

أكثر الأشياء “عدلاً” في عهد سعيّد الاعتقالات التي توزّعت بين جُلّ الطيفين، السياسي والمدني، بعد وهم أنّها لن تطاول إلّا “النهضة

تيسّر هذه العوامل كلّها لنا فهم لِمَ كان شعار الحرّيات من أكثر الشعارات أهمّيةً، هتفت بها حناجر المتظاهرين يوم الجمعة الماضي. كذلك فإنّ ما يثير الانتباه أيضاً الفئاتُ العمريةُ التي شاركت في هذه المظاهرة. فاللافت للانتباه الحضور المكثّف للشباب، والعودة إلى الجامعات ساهمت في التعبئة، فما كان من الممكن أن تجتمع تلك الأعداد الغفيرة لو كانت الدعوة إليها قد جرت قبل أسابيع قليلة، أي في ذروة العطلة الصيفية التي تُغلَق فيها الجامعة والمدرسة نحو ثلاثة أشهر. يستأنف الشباب تحديداً مسار احتجاجهم، خصوصاً أنّ آخر الحركات الاحتجاجية الشبابية لفظت أنفاسها مع صعود الرئيس سعيّد خلال انتخابات 2019، إذ لا ننسى أنّ طيفاً واسعاً من هذه الحركات (“ما نبش نسامح”، “وينو البترول”…) قد أعلن انضمامه إلى تيّار سعيّد، وهو الخليط من اليسار الفوضوي والعروبي، ومن نزعات أخرى من تعبيرات ماركسية جدّ مُتطرّفة، ما زالت تأمل استعادة التنظيم المجالسي، ومختلف أشكاله القاعدية.
مرّت هذه الحركات الاجتماعية، التي شكّلت شوكةً عنيدةً في حلق الذين حكموا خلال فترة عشرية الانتقال، تنازعتهم خلافاتٌ داخليةٌ حادّة، فضلاً عن محاولات توظيف لم يسلموا منها دوماً، تفيد بعض أدبياتهم الداخلية عن حجم هذه الرهانات كلّها.
خلال خمس سنوات (هي عهدة الرئيس سعيّد) لم نرَ أيَّ شكلٍ من أشكال التحرّكات الشبابية تلك، وذلك كان نوعاً من المساندة للرئيس، أو ربّما خوفاً من ملاحقات يمكن أن تطاول بعضهم في ظلّ ظروف تشي بتدهور جُلّ القضايا التي ناضل من أجلها هؤلاء الشباب، بمختلف تعبيراتهم وتنظيماتهم. اختفى هؤلاء كلّهم وكأنّ الأرض ابتلعتهم، غير أنّهم يستعيدون عنفوانهم. اختفت الشعارات القديمة والوجوه القديمة، ما يوحي بتجدّد ما في طيف هؤلاء الشباب، الذين لم يكسبوا من مرحلة سعيّد أيَّ شيء، بل خسروا كثيراً، حتّى أدنى حرّياتهم الفردية، بعد موجات من التوقيفات التي طاولت المدوّنين وغيرهم.
غير أنّ علينا ألّا نفرط في التفاؤل، حتّى نتخلّص من عديد من الأوهام والأحلام التي أفسدت علينا في كثير من الأحيان صواب التقدير، ومنحت التونسيين مكانةً لا تخلو من نزعة مُتورِّمة. هذه المظاهرة كانت حجراً رماه هؤلاء في مياه راكدة، ولكن ما زالت العديد من المسائل العالقة التي قد تحدّ من هذا الاندفاع؛ الشرخ الاجتماعي الحادّ بين كتلتَين كبيرتَين، الإسلاميين وخصومهم، فضلاً عن غياب أيّ مبادرات تشجّع على النقد الذاتي المُتبادَل وعلى التجاوز. غير أنّ الثابت أنّها ستكون وخزةً في الاعتداد بالنفس والصلف، اللذَين لازما النظام، علاوة على أنّها وخزة لاعتداده بنفسه باعتباره “ضمير الشعب”، وأن حضانته أبدية ولا حدود لها.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. هل ستشهد تونس إعادة إحياء الربيع العربي؟ الإستبداد والإستفراد بالمواقف الذي جسده “قيس سعيد” وصل الى مستوى فاق مرحلة “زين العابدين” ولكن علينا ألّا نفرط في التفاؤل، حتّى نتخلّص من عديد من الأوهام والأحلام التي أفسدت علينا في كثير من الأحيان صواب التقدير.

زر الذهاب إلى الأعلى