ليست هي المرّة الأولى التي يأتي فيها الكاتب على الفساد في العراق، ولا يبدو أنّها ستكون الأخيرة، فهذا الملفّ قديم ومتأصّل قِدَم العملية السياسية التي فصّلتها الولايات المتّحدة وقوّاتها المحتلّة للعراق عام 2003، وألبستها لمجموعةٍ من القوى والأحزاب والشخصيات التي كانت تقيم خارج العراق بحُجَّة معارضة نظامه.
كتبتُ في 2010 مقالة في صحيفة العرب القطرية، بعنوان “فساد اسمه العراق”، يومها احتجّ السفير العراقي في الدوحة، وهاجمني بمقال طويل عريض نشرته الصحيفة يومها، وراح يتّهمني بعدم الوطنية لأنّني قرنت العراق بالفساد، من دون أن يتحدّث عن لبّ المشكلة ويأتي بما ينفي ما جاء في المقال… ولأنّ المشكلة من رؤوس العملية السياسية التي شكّلها النظام الجديد، الذي أقيم على أنقاض النظام السابق، كانت الأمور دائماً ما تلملم بين تلك الرؤوس، وتنتهي الضجّة، وتسكت الأصوات الهادرة التي طالبت بمحاكمة الفاسدين، ولكنّ الأمر لا يتوقّف، وشريان الفساد الذي سرى في عروق أقطاب العملية السياسية في العراق، ما زال يُغذّي طموحاتهم السياسية والمالية والاقتصادية وحتّى الاجتماعية، وهم الذين قضى أغلبهم حياتهم مُعتاشاً على ما يُصرَف له من إعانات شهرية من الدول التي كانوا يقيمون فيها.
الفساد في العراق بات حالةً سياسيةً لا تنفصل بأيّ حال عن النظام السياسي المتورّط فيه من رأسه إلى أخمص قدميه
“سرقة القرن” في هذه الأيام بمثابة حدث مركزي في العراق، فلا حديث يعلو الحديث عنها، وهي ببساطة سرقة مالية ضخمة لأموال الأمانات الضريبية، تقول مصادر قضائية عراقية إنّها تتجاوز 2.5 مليار دولار، وإنّ المبلغ يمكن أن يصل إلى أكثر من أربعة مليارات ونصف المليار دولار في حال احتُسِبت الفوائد والعوائد المُترتّبة من تلك الأموال.
ولأنّ الفساد في العراق بات حالةً سياسيةً لا تنفصل بأيّ حال عن النظام السياسي المتورّط في هذا الفساد من رأسه إلى أخمص قدميه، من الجيّد العودة قليلاً إلى الوراء، وتحديداً إلى 2016، يوم نشر موقعا فيرفاكس ميديا الأسترالي وهافننغتون بوست الأميركي تحقيقاً عن صفقات فساد تحت غطاء عقود نفطية شملت مسؤولين عراقيين رفيعي المستوى، أبرزهم وزير التعليم العالي آنذاك، حسين الشهرستاني الذي كان نائبَ رئيس الوزراء لشؤون الطاقة في حكومة نوري المالكي الثانية (2010 – 2014)، ووزيراً للنفط في الحكومة الأولى (2006 – 2010). وقد كشف التحقيق الاستقصائي أنّ شركة أونا أويل دفعت 25 مليون دولار في الأقلّ رشىً عبر وسطاءَ لضمان دعم مسؤولين نافذين في العراق للحصول على العقود النفطية.
المفارقة أنّه، وبعد نشر ذلك التحقيق وتحرّك السلطات القضائية لتحرّي القضية، كشفت تقارير محلّية إغلاقَ التحقيق بقضية الفساد الكبرى في الموضوع بأمرٍ من مسؤول رفيع المستوى، لتُطوَى صفحة ما عرفت في حينها بـ”سرقة القرن”، لتستمرّ عجلة الفساد تسحق ما في هذا العراق كلّه، وتستنزف أمواله لمصلحة طبقةٍ سياسيةٍ فاسدة، وصولاً إلى ثورة تشرين (2019)، وقمعتها السلطات بقوّةٍ ما أدّى إلى مقتل 800 متظاهر وإصابة أكثر من 27 ألفاً آخرين، واعتقال المئات، في حين لاذ مئاتٌ من صُنّاع تلك الثورة إلى ملاذات آمنة خارج العراق، وما يزالون.
ومع تكشّف “سرقة قرن” جديدة في العراق، وبهذه المبالغ المُعلَنة، تبيّن أنّ تلك الصفقة التي وصفتها الصحافة الغربية بأنّها “سرقة القرن”، لم تكن شيئاً مذكوراً في قيمتها وقيمة أموالها، ولا في الشخصيات المتورّطة فيها، فقد أفادت تقارير محلّية بأنّ رؤوساً كبيرة متورّطة في “سرقة القرن” الجديدة، أكبر بكثير من التي تورّطت في عقود النفط، وكشف عنها عام 2016.
أصدر المركز البريطاني للدراسات التنموية، في 2014، تقريراً أشار فيه إلى اختفاء 120 مليار دولار من فائض موازنات العراق المالية، خلال فترة تولّي نوري المالكي رئاسةَ الوزراء، موضّحاً أنّ العراق حقّق فوائضَ ماليةً كبيرةً ما بين 2006 و2014، إذ بلغ مجموع الموازنات في تلك الفترة نحو 700 مليار دولار، ذهبت جُلُّها إلى جيوب الفاسدين من أقرباءَ ومحسوبين على نوري المالكي، من خلال صفقاتٍ فاسدةٍ عقدها هؤلاء مع كلّ من إيران وروسيا والنظام السوري ولبنان.
قبل أيّام، وبعد أن تكشَّفت ملامحُ أكثر عن “سرقة القرن”، سارع أقطاب النظام السياسي في العراق إلى محاولة لملمة الموضوع، وتوالت تصريحاتٌ تدعو الجميع إلى التهدئة، خاصّةً بعد أن ظهر المُتّهم بهذه السرقة (نور زهير) في لقاء متلفز، وطالب بأنّ تكون محاكمته علنيةً، مشيراً إلى أقطابٍ كبيرةٍ في النظام السياسي كانت شريكةً له في عمله.
تطاير شرر “سرقة القرن”، حتّى وصل إلى السلطة القضائية في العراق، وبدأ التراشق بين رموزها، وتكشّفت فضائحُ أخرى تتعلّق بشراء ذمم كبار القضاة، بل وصل الأمر إلى حدّ تورّط جهات قضائية في ملفّات فساد من خلال ردّ دعاوى فساد كبيرة وغيرها.
لا يمكن أن تتوقّف عجلة الفساد في العراق، فما يُكشَف عنه لا يُمثّل سوى النزر اليسير من ملفّات أخرى كبيرة جدّاً مسكوت عنها
لا يمكن بأيّ حال أن تتوقّف عجلة الفساد في العراق، فما يُكشَف عنه لا يُمثّل سوى النزر اليسير من ملفّات أخرى كبيرة وكبيرة جدّاً مسكوت عنها، ملفّات تُحيل “سرقة القرن” إلى ما يمكن اعتبارها “خُردةً” لا تمثّل شيئاً، هذه العجلة التي يراها أقطاب النظام السياسي مفيدةً لهم، مالياً وسياسياً، لا بدَّ لها أن تسحق النظام السياسي في العراق، وتطيح العمليةَ السياسيةَ التي تسعى أميركا (ومعها إيران) إلى الحفاظ عليها، فهي بفسادها تعتبر مصدراً مالياً مهمّاً لكليهما، وكلٌّ بطريقته الخاصّة.
غيوم تتجمّع في سماء العراق، تُنذِر بثورةٍ تطيح سقف المعبد على رؤوس سَدَنته، لا يمكن أن يبقى هذا النظام يمارس فساده كلّه، وطائفيته كلّها، وتهميشه، من دون حساب. نعم، ربّما تكون تجربة ثورة تشرين (2019) ما زالت ماثلةً أمام أعين الشباب العراقي، بقسوة القمع الدموي الذي تعاملت فيه السلطات، إلّا أنّ جذوتها في النفوس ما زالت مُتَّقِدة، تُغذّيها هذه الصفقات الفاسدة كلّها، التي يديرها سَدَنة المعبد، حينها قد لا تنفع النظام السياسي القائم اليوم محاولات إيران الدفاع عنه، أو محاولات أميركا في إصلاحه.
المصدر: العربي الجديد
بعد عام 2003 أصبح الفساد والمحاصصة السياسية والطائفية وسرقة المال العام سمة النظام العراقي، لأنها أصبحت حالةً سياسيةً لا تنفصل بأيّ حال عن النظام السياسي المتورّط فيه من رأسه إلى أخمص قدميه، و لا يمكن أن تتوقّف عجلته، علماً بأن ما يُكشَف عنه لا يُمثّل سوى النزر اليسير من ملفّات أخرى كبيرة جدّاً مسكوت عنها.