1 – بعد تغييب المشروع القومي العربي التحرري من ساحات العمل والنضال في كل الاقطار العربية , وبعد تقدم المشروع الصهيوني بالرعاية التامة من أمريكا وكل الغرب الإستعماري وتصدره مشهد السياسة والامن والإعلام والمال والإقتصاد والنفوذ ؛ إستطاعت أدوات هذا المشروع ووسائل تأثيره ومصادره الكثيرة لصناعة الوعي وتشكيل الرأي العام إلى جانب مراكز أبحاثه ودراساته ؛ إستطاعت جميعها في سياق حربها الشاملة المفتوحة على الوجود القومي للأمة العربية ؛ أن تعيد الوعي العربي العام سنوات كثيرة الى الوراء فاعادت طرح كل الأمور والمسائل الفكرية والنظرية وفقا لرؤيتها هي مع إغفال تام لوجهة النظر القومية التوحيدية التحررية التي باتت تفتقر لأدوات تمكين المعرفة وتثبيت الوعي بكل الاخطار والتحديات التي تواجه الواقع العربي ويتصدرها المشروع الصهيو – امريكي ..
2 – ومع إسقاط آخر معقل عربي تحرري بإحتلال العراق سنة 2003 ، إنتعش المشروع الصهيوني وراح يعمل لتوسيع نطاق سيطرته وإمتداد نفوذه وهيمنته على التوجهات العامة للمنطقة العربية..ترافق هذا مع إندفاع مشاريع إقليمية معادية للعرب شعوبية المضمون توسعية على حساب الوجود العربي ، تزعمها مشروع إيران التوسعي الذي تسلل إلى الجسم العربي تحت راية فلسطين ولواء القدس..ولحق به مشروع تركي توسعي أيضا على حساب الوجود العربي ذاته..
3 – كان من نتائج هذا الإنتعاش وتجلياته الكثيرة ؛ وخضوع مصادر المعرفة والوعي لسلطانه ، أن أطبق الحصار على الدعوة القومية وعلى كل ما هو عروبي أكان ثقافة أو فكرا او قيما حضارية وأخلاقية وإنسانية..وعلى كل ما هو توحيدي وجامع لصالح كل ما هو فاسد وتقسيمي وتخريبي ومثير للفتنة أو للفساد..وتعرضت كل مقومات الفكر التوحيدي التحرري وقيمه وسلوكياته لتشويه كبير إستهدفها عبر وسيلتين أساسيتين :
الأولى : إتهامها بكل ما هو سلبي ورجعي ومتخلف عن الحداثة ومتغيرات الفكر الإنساني المعولم وبالتالي سقوطها وضرورة التخلي عنها ومتابعة ما هو جديد وحديث يواكب التطور المتنوع..
الثانية : تسخيفها وتفريغها من اي مضمون إيجابي تحرري إنساني ديمقراطي..فإذا كان لا بد من بقاء من يتحدث عنها او بأسمها ؛ فلتكن سطحية شكلية خالية من المضمون الإيجابي المتفاعل مع ضمير الشعب وإهتماماته الحقيقية وواقعه وما فيه من أخطار وتحديات راهنة.وفي هذا السياق يأتي تقديم أصوات وأدوات معرفية ترفع الشعارات القومية وتتبنى مواقف التبعية لأحد اشكال النفوذ المعادي المحلي او الأجنبي..فتسهم في إنفضاض الناس عن تلك الدعوات الفكرية ذاتها وليس فقط عن تلك الأصوات والأدوات..
4 – هذا التشويه المدروس والمتعمد أصاب قضيتين أساسيتين كان الفكر القومي الوحدوي التحرري قد إستفاض في شرحهما وبيان الصلات العميقة بينهما :
الأولى : قضية فلسطين بصفتها قضية العرب المركزية..
الثانية : الصلة بين ما هو وطني وما هو قومي..
5 – حول مركزية القضية الفلسطينية :
دائما ما تثار في الكتابات السياسية حاليا مسألة موقع قضية فلسطين في سياق العمل والإهتمام العربيين..فتتوزع المواقف حولها في خمسة إتجاهات أساسية :
الاول : من يقول أنها قضية العرب الأولى والمركزية وبالتالي يجب أن يكون الإلتزام بها مقدما على ما عداها من قضايا أخرى..وعليه يكون الموقف من أية جهة أو اية دعوة بناء على موقفها من فلسطين وقضيتها..
الثاني : يقول بأولوية مواجهة الإستبداد السائد كمقدمة لازمة لخدمة فلسطين وقضيتها..وعلى رغم إعتراف اصحاب هذا الإتجان بقومية قضية فلسطين إلا أنهم يعطون الأولوية لإسقاط الإستبداد وقواه تمهيدا للوصول إلى فلسطين..
الثالث : ينطلق من ضرورة الإهتمام بالتوعية الشاملة والنقد الشامل لكل ما يدخل في التراث والتاريخ والعقل وبنية الفكر العربي وحينما يتم تشكيل وعي جديد شامل يخرج الانسان العربي من نطاق تأثير التراث الديني والتاريخي عليه، يصبح مؤهلا للإهتمام بفلسطين ومواجهة الأخطار التي تتهدده..
الرابع : ذلك الإتجاه الذي يعتبر الصراع في فلسطين او عليها ، خلافا سياسيا وصراعا على الحدود وشكل النظام وإمتداده..وهو ما جعله يقبل الإعتراف بدولة الكيان الصهيوني ويطالب بالسلام معها والتطبيع ولو انه يطالب بدولة للفلسطينيين على جزء من ارضهم..
الخامس : يرى أن الصراع بين الصهاينة والعرب إنما هو صراع ديني بين المسلمين واليهود وفي القلب منه الصراع على الأماكن الدينية المقدسة في القدس وبعض فلسطين..وهؤلاء من يعطي صفة الإسلامية للمقاومة مع ما في ذلك من أبعاد وخلفيات ورؤى..
وحتى نستطيع تبيان الموقف الموضوعي من قضية فلسطين ؛ لا بد من إسترجاع ما توصل إليه الفكر العربي بعيد سنوات قليلة من إغتصاب فلسطين..
كان من بديهيات الفكر العربي التحرري أن إغتصاب فلسطين لم يكن مجرد إحتلال عابر بل كان تأسيسا لكيان أجنبي إستعماري ينطلق من فلسطين ليسود المنطقة العربية..وفقا لهدفين اساسيين :
الاول : منع قيام دولة عربية موحدة سوف تشكل خطرا على المصالح الإستعمارية في المنطقة والعالم..
الثاني : محاربة كل توجه عربي في اي بلد لبناء نهضة أو تأسيس تقدم إقتصادي او دعوة تحررية أو توحيدية ..
ويظهر السياق التاريخي للأحداث ذلك الترابط الوثيق بين إنشاء دولة الكيان وهدف تقسيم الوطن العربي وإبقائه تحت الهيمنة الإستعمارية سواء بالإحتلال العسكري المباشر أو غير المباشر أو حكمه بالواسطة عن طريق ادوات محلية يتم إعدادها وتسليمها مصادر القوة والنفوذ والسلطان..تتولى تنفيذ المطلوب منها بدقة وإلتزام..
عقدت الدول الإستعمارية مؤتمر كامبل بانرمان في لندن بين عامي 1905 -1907 وهو الذي ضم أهم خبراء تلك الدول في شؤون السياسة والتاريخ والإقتصاد وعلوم الإجتماع البشري..وهو الذي وضع الأسس لإغتصاب فلسطين وتقسيم الوطن العربي ومحاربة كل توجه تحرري وحدوي تقدمي فيه..
وفي سنة 1916 وعلى أساس مقررات وتوصيات مؤتمر كامبل بانرمان ؛ عقدت إتفاقية سايكس بيكو لتقسيم الوطن العربي بين القوى الإستعمارية الكبرى..
وتلاها مباشرة في سنة 1917 صدور وعد بلفور تتعهد فيه بريطانيا بمساعدة الصهاينة في إغتصاب فلسطين..وإنطلقت سلسلة متكاملة من الأعمال المدروسة وفق برامج عمل وخطط معدة في الدوائر الإستعمارية لوضع الاهداف المقررة موضع التنفيذ العملي وتحويلها من مقررات نظرية إلى وقائع عملية
وإتخذت لذلك طريقين متكاملين :
الأول : تحضير الأوضاع في فلسطين في جميع النواحي تمهيدا لتأسيس دولة ” إسرائيل “..وفي هذا السياق كانت الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتأسيس مستعمرات سكانية مسلحة فيها وتهجير الفلسطينيين ومحاربتهم بكل الوسائل الحربية والنفسية والحياتية..
الثاني : تحضير الاوضاع في سائر أرجاء الوطن العربي لتكون مؤهلة لتقبل تأسيس دولة الصهاينة والمشاركة في تحويل المقررات التقسيمية في سايكس بيكو إلى وقائع ميدانية ..وفي هذا السياق كان العمل لتأهيل أدوات محلية قادرة على تحقيق المطلوب وتسليمها مفاتيح القوة والنفوذ والسلطان وتتولى هي بالنيابة عن مؤسسيها عرقلة كل توجه تحرري وحدوي تقدمي عربي..وتكريس التجزئة وتشكيل غطاء عربي يمهد لتقبل دولة إسرائيل في الإطار العربي..
وفيما بين الحربين العالميتين حيث كانت البلاد العربية تحت الإحتلال العسكري الإستعماري المباشر ؛ تم إنجاز معظم ما كان مطلوبا فما أن إنتهت الحرب العالمية الثانية إلا وكانت دولة العدو الصهيوني قائمة وبإعتراف دولي وكانت نظم التجزئة الإقليمية العربية قائمة أيضا..وكان أن إشتركت جميعها معا في محاربة كل توجه عربي تحرري توحيدي تقدمي..وكان هذا حقيقة واقعة ساطعة خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين..ففي تجربة الوحدة التي قامت بين مصر وسورية سنة 1958 تحالفت دولة العدو الصهيوني و كل تلك القوى التي صنعته ومعها تلك الأدوات المحلية الرسمية والحزبية مع كل قوة تعادي وحدة وتقدم العرب ؛ لإفشال الوحدة حتى لا تكون نموذجا قابلا للتوسع وصولا إلى توحد كل العرب في دولة واحدة..وتكرر الأمر ذاته فتحالف هؤلاء جميعا لإسقاط العراق وإحتلاله وإفشال تجربته في البناء والتقدم..
ولا يزال ألأمر كذلك في كل حين..
فالواضح الجلي من الوقائع والوثائق والتاريخ والواقع المعاش أن ألمقصود بإنشاء الكيان الصهيوني العدو ليس فقط فلسطين بل عموم الامة العربية بكل مكوناتها ومقومات وجودها وقوتها..
وبناء على هذا ينبغي إعادة التأكيد على ذلك الإرتباط الوثيق بين قضية فلسطين وكل قضية عربية وطنية ؛ سياسية كانت أم آقتصادية او إجتماعية ؛ أو قومية تحررية ووحدوية وتقدمية..وتفصيل ذلك ان :
# كل نضال عربي في مكان من الأرض العربية ضد التخلف والفقر والقهر والإستبداد إنما هو نضال من أجل نصرة فلسطين..
# وكل نضال آجتماعي من أجل العدالة وتكافؤ الفرص إنما هو يصب في نصرة فلسطين بل هو جزء متمم لها..
# كل بناء إقتصادي لتأسيس آقتصاد إنتاجي يحقق تنمية إقتصادية وإستقلالا سياسيا هو رافد في معارك تحرير فلسطين.
# كل نضال وطني لبناء دولة المواطنة والقانون وإسقاط دويلات الإستبداد و المحاصصة والطائفية والمذهبية ؛ وتعزيز المشاركة الشعبية الفاعلة في تقرير المصير الوطني ؛ إنما هو مطلب أساسي في نصرة فلسطين.. .
# كل عمل توعوي نقدي بناء يهدف لكشف السلبيات وترفيع الإيجابيات وتعزيز الثقة بالنفس إنما يؤدي إلى نصرة فلسطين وقضيتها..فصناعة وعي حقيقي بالتاريخ وبثوابت التكوين القومي هي مطلب يلازم كل نضال لتحرير فلسطين وتحرير الإنسان العربي..وليس لإحباطه أو إثارة فتن مجانية مخربة..
# كل مساهمة في مقاومة اي شكل من أشكال الهيمنة والتبعية والإرتهان لقوى النفوذ الأجنبي والإقليمي إنما هو في صلب قضية فلسطين..
# كل دعوة ثقافية تسهم في تعزيز الهوية والإنتماء والتمسك بالأرض ؛ إنما هي في سبيل فلسطين ..
# كل دعوة دينية إيمانية تحارب الفساد وتعزز القيم الأخلاقية والإنسانية وتزيد في فرص المشاركة الشعبية ؛ تشكل رافدا مهما في الإنتصار لفلسطين..
ليست هذه تمنيات أو مغالطات بل هي حقائق الواقع العربي لمن يريد ان يراها..وعليها نؤكد ما كان أكده كل المفكرين والكتاب القوميين من ساطع الحصري وميشال عفلق إلى عبداللن الريماوي وعصمت سيف الدولة ومطاع الصفدي ونديم البيطار وعبدالله عبدالدايم وكثيرون غيرهم من أن :
# # قضية فلسطين هي عنوان المواجهة العربية الشاملة ضد كل القوى الإستعمارية المعادية للتقدم العربي..وكل مشاريعها لمنع أو عرقلة تحرير الأرض العربية والإنسان العربي..تحريره من كل قيود الإستبداد والإستغلال والفقر والتشتت والسلبية والفساد..
وعليه يصح بل وجب أن تكون قضية فلسطين هي قضية العرب الأولى والمركزية ..فهي التي توحدهم في حركة نضالية واحدة او هكذا ينبغي أن تكون..فلسطين تستدعي تحرير الإنسان ليكون قادرا على إمتلاك المعرفة والوعي ؛ قادرا على التعبير عن ضميره ووجدانه وحقوقه وقادرا على المشاركة الفعلية في تقرير مصيره وبناء مستقبله الأفضل..فلسطين تستدعي إنحادا عربيا يحقق إمكانية دحر المشروع الصهيوني الإستعماري..
وعليه أيضا فإن كل قهر للإنسان ؛ أو ردعه ومنعه من تقرير مصيره ؛ كل عمل تقسيمي او فتنة مجتمعية من اي نوع وكل فساد أو دعوة مفسدة ؛ إنما تعادي فلسطين وتخرب مسيرة تحريرها..
وكل شكل من أشكال التبعية والإرتهان لأية مشاريع غير عربية معادية للأمة ، سواء كانت تبعية فردية او حزبية أو رسمية ؛ هي عمل يعادي قضية فلسطين ويؤخر إمكانيات تحريرها..
إن فلسطين هي القضية الجامعة لكل قضية وطنية وإنسانية عربية..ولذا فقد صح شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ..فهي معركة واحدة في كافة الساحات وكافة ميادين الحياة والعمل..
معركة واحدة لتحرير فلسطين وتحرير كل ارض عربية وتحرير الإنسان العربي وتوحيد الأمة وبناء نهضتها وتقدمها..وهذا بدوره ينفي ويستبعد كل حديث عن فلسطين خارج السياق النضالي العربي ويبعد عنها كل إدعاء أو إستغلال أو توظيف لغير مصلحة عربية ..
إن إدراك ذلك الإرتباط الوثيق بين كل قضية وطنية وبين قضية فلسطين في سياق عمل عربي تحرري توحيدي ؛ مسؤولية كل عربي حر شريف يسعى لنصره وطنه وأمته وتحرير فلسطين..
ولا يمكن الإنتصار في اية معركة من هذه المعارك في سياق الحرب العالمية الشاملة على الوجود العربي ؛ ما لم يتحقق ذلك التكامل بين ما هو وطني وما هو قومي..بين فلسطين وكل هدف عربي نبيل وكل مصلحة عربية تقدمية تحررية توحيدية..
إن طمس هذه الحقائق وصولا إلى فصل قضية فلسطين عن قضايا العرب الوطنية ; إنما يهدف إلى إبقاء فلسطين تحت الإحتلال والإستفراد بكل بلد عربي على حدة ؛ وبالتالي مصادرة المستقبل العربي ليكون إمتدادا تلقائيا لواقع الهيمنة والتبعية والإستبداد والتشتت والضعف ..
اما القابلون بدولة الكيان المعادي ، المطالبون بسلام موهوم معها ؛ فهم خارج البحث والإهتمام..
المصدر : كل العرب
قراءة موضوعية، وتحليل دقيق لتحديد “لماذا فلسطين أولاً” لأنه يتطلب تحقيق التكامل بين ما هو وطني وما هو قومي..بين فلسطين وكل هدف عربي نبيل وكل مصلحة عربية تقدمية تحررية توحيدية، والقابلون بدولة الكيان المعادي، مطالبين بسلام موهوم معها، فهم خارج الواقعية والموضوعية لأنهم واهمون.