سكنتْ ذاكرتي وأنا في الحصار حادثةٌ شاهدتُها، وأنا في العاشرة من عمري، حين نشبتْ مشاجرةٌ بين شابين من أبناء الحيّ، أشهرَ فيها أحدهما خنجرًا، واستلَّ الآخرُ شبريةً، فبرقَ نصلاهما، وعجز رجال الحيِّ عن الفصل بينهما، فإذ بـ (ستي الداية) أم جورج، وكأن الأرض انشقتْ وقذفتْ بها، تصرخُ في وجهيهما، بقامتها الممشوقة على الرغم مما تحملُ فوق كاهلها من السنين:
– ابتعدا.
– ضعا سلاحيكما في خصريكما.
– اقتربا، وليقبلْ كلٌ منكما الآخر. ترددا، فصرختْ من جديد، وهجمتْ عليهما، أمام ذهول رجال الحيِّ:
– اقتربا منها، وقبَّلَ كلٌ منهما يدها وقبل كل منهما الآخر.
كلُّ طفلٍ في العالم له جدتان: أم الأب وأم الأم، إلا أبناء حيِّنا فلهم جدةٌ ثالثة، وهي ستي القابلة أم جورج، وكنا نظن أنها الجدة الأولى.
عندما يدهم المخاض امرأةٌ من الحي كنا نركضُ مسرعين إلى دار ستي، ونطرق بابها الخشبي بمدقته الحديدية، ونخاطبها لاهثين:
– أدركي -يا ستي- أمي (عما تولد)، فكانت تسأل بلهفة:
– من هي أمك؟
– ناجية.
– التي تسكن بجوار جامع شيخ سعد.
ثم تدخل يدها في جيبها، وتقدم لنا كمشةً من الزبيب، أو قضامة سكرية.
– اسبقني، سألحق بك مثل الطير.
هذه هي أم جورج، وكنا نتهامس أطفالًا: كيف تستطيع ستنا توليد كل أمهاتنا، وتعرف أسماءهن، وتتابع حملهن شهرًا فشهرًا؟، وكان شعورنا أننا أخوةٌ في الحي، طالما أن أم جورج ستنا جميعًا، وكم التجأنا إلى زواريب التفافية عندما نشاهدها تتقدمنا، لنقبلَ نحوها ونقبِّلَ يدَها، ونحصلَ على ما في جيوبها.
كنا نقبِّل يدها كلّما مررنا بها، فتسأل باشةً بنا: مَنْ أمكَ يا صغيري، وتضع في أيدينا ما في جيبها، وقد رشَّتْ فوق رؤوسنا القضامة السكرية عندما ختمتُ القرآن في كتَّاب (شيخ برق)، وأصرّتْ على أن تفكَ الخيطَ الذي رُبطَ بين قدمي، ولمْ يغبْ عن عيني احمرارُ وجهها عندما قبلتُ يدَها مرةً؛ فاعتذرتْ: لقد سبقك من أخذ ما في جيبي يا ولدي.
هذا هو حيّ باب السباع أحد أحياء حمص القديمة، وهذا أنا وقد تخطيت العقد السابع، أكتب في الحصار لذكرى ستي أم جورج؛ رحمها الله.