رشّحت لجنة أربعة صحافيين فلسطينيين لجائزة نوبل للسلام، في اعتراف منها بأهمية عملهم غير المسبوق في نقل فظائع الإبادة في غزّة، وهو حدث انفردوا في نقله، لغياب الصحافة العالمية، وقبولها التخلّي عن مهمّة تغطية حدث بهذه الأهمّية. ينتمي اثنان من الصحافيين الأربعة (وائل الدحدوح وهند الخضري) إلى الصحافة التقليدية، في حين أنّ الآخرَين (معتز عزايزة وبيسان عودة) خرجا من عالم الإعلام البديل. هم، باعتراف اللجنة، صحافيون متساوون مع زملائهم الغربيين في استحقاق التقدير والاعتراف. لعلّ هذا الترشيح هو الردّ الأقوى على المقتلة المتواصلة التي ترتكبها آلة الحرب الإسرائيلية ضدّ الصحافة المحلّية بحُجّة الانتماء إلى حركة حماس أو دعمها.
يأتي ترشيح الصحافيين الأربعة بعد منح الجائزة عام 2021 للصحافيَين الفيليبينية ماريا ريسا والروسي ديميتري موراتوف لنضالهما من أجل الدفاع عن حرّية التعبير في بلديهما باعتبار أنّهما “يمثّلان كلّ الصحافيين الذين يدافعون عن هذه القيمة”. بترشيحها الصحافيين الفلسطينيين الأربعة، تعترف اللجنة بأهمّية العمل الذي يقومون به للدفاع عن حقّنا في الوصول إلى المعلومة والصورة في مجزرة تدور فصولها في العتمة، كما وتشير إلى أنّ الإبادة التي لا يزال الإعلام الغربي يرفض استخدامها توصيفاً للقتل المُروّع هي أسوة بقمع الأنظمة الديكتاتورية لحرّية الصحافة والحقّ في التعبير، وبذلك تلغي الاستخدامات الترويجية عن حقّ الدفاع عن النفس في الدعاية الإسرائيلية، بما في ذلك تبرير القتل المتعمّد للصحافيين بحُجّة أنّهم متعاونون أو أفراد من “حماس”.
لا نحتاج لترشيح “نوبل” لنذكر هؤلاء الصحافيين كلّ يوم ونتابع نتاجهم الصحافي أو تغريداتهم. من دون عيونهم (وأجسادهم) لم نكن لنعرف حجم المقتلة المتواصلة في غزّة، ولا تحوّل البقية الباقية من أهالي القطاع ممّن لم يقتل بعد مادَّة للتشرّد. لا نعرف كثيراً عن آليات صمودهم. كيف يعملون؟ هل يأكلون؟ أين ينامون؟ هل يتمتّعون بأيّ شكل من أشكال الحماية؟ كيف ينقلون الحدث وهم جزء منه؟ كيف يتعاملون مع فقدان زملائهم وهو بات خبراً ينقلونه وكأنّه عملٌ روتينيٌّ؟ هل يخشون الموت، وكيف يتعاملون مع احتمالاته وهو أمر مُرجّح؟ كيف يتعاملون مع صدمة التغطية اليومية لمقتل زملائهم وأفرادٍ من عائلاتهم؟ ماذا بعد؟
تقدير لجنة نوبل مهمّ جدّاً للاعتراف بالصحافيين الأربعة وزملائهم، إلّا أنّ الأكثر أهمّية هو الاعتراف بحقّهم في الحياة وحمايتهم من التحوّل أبطالاً قبل أن يتحوّلوا ضحايا
لم يثر قتل هذا العدد غير المسبوق من الصحافيين في غزّة أيَّ صدمةٍ في مجتمع الصحافة العالمية سوى بيانات اعتراض من منظّمات حقوقية. بات قتلهم أمراً عادياً لا يعدو أحياناً أن يكون خبراً صغيراً في بعض الإعلام العربي. أخبار استهدافهم تأتينا كلّ يوم. في آخر حصيلة، قتل الصحافي إبراهيم محارب في قصف إسرائيلي استهدف مجموعةً من الصحافيين في خانيونس، وعثر على جثته بعد فقدانه. في موقعه في إنستغرام، يحمّل إبراهيم صورَ زملاءٍ له قضوا في قصف إسرائيلي وكأنّه يستعدّ للالتحاق بهم، ليصبح صورةً يرفعها زميلٌ له حتّى لا تغيب ذكراه. شاهدنا صورَ الصحافية سلمى القدومي وهي تُنقَل بعد إصابتها برصاصة قنّاص في الظهر، شاهدنا رعب الاقتراب من الموت وألم الإصابة، في حين تنقل كاميرات الهواتف النقّالة لحظات الصدمة التي عاشتها. صحافيان آخران على الأقلّ قُتلا أخيراً، هما المصوّر الصحافي حسام منال الدبكي، وقد قتل مع عائلته في قصفٍ لمخيّم المعازي، والمصوّر الصحافي حمزة مرتضى، الذي قتل مع آخرين في قصف إحدى المدارس في غزّة. ربّما أيضاً غيرهم سيُقتلون قبل نشر هذه السطور. من الصعب إحصاء أعداد القتلى الصحافيين لتباين الحصيلة. حتّى كتابة هذه السطور قتل 116 صحافياً وعاملاً إعلامياً على الأقلّ، بعضهم اعترفت إسرائيل بقتلهم، بحسب لجنة حماية الصحافيين، في حين تقول مصادر أخرى إنّ الرقم فاق 170 ضحيةً.
تحوّل الصحافيون المحلّيون، أو من تبقّى منهم في غزّة، أبطالاً من دون أن يقصدوا أداء هذا الدور. كرّس ترشيح لجنة نوبل لأربعةٍ منهم هذه الهُويَّة، التي يحملونها بفخر كما يحملون معاناتهم ويُعبِّرون عنها في تغريداتهم، وكأن هذه التغريدات باتت العلاقة الوحيدة (ولو وهميةً) مع العالم الخارجي، حيث حياة أخرى طبيعية ممكنة. تقول هند الخضري في سلسلة تغريدات: “يا الله وين أروح بكل هالوجع اللي فقلبي؟ … خايفة أنام أصحى على كارثة”. يُغرّد الصحافي محسن الدلول أنّه مشتاق لطفله الذي قضى في قصف مع والدته، ويُعلّق على صورة والد يحمل ما تبقّى من جثّة طفله في كيس، كما فعل هو أيضاً عندما جمع بقايا طفله في كيس، فيقول: “أين يذهب كلّ هذا الألم؟ سوف نحتاج الى دراسات جديدة لنفهم علاقة هؤلاء الصحافيين ببيئتهم وقرار بعضهم البقاء رغم الخطر وآليات التأقلم مع واقع فائق الصعوبة خارج خطاب البطولة التي تسبغ على هؤلاء الصحافيين طالما بقوا على قيد الحياة”.
لم يثر قتل عدد غير مسبوق من الصحافيين في غزّة أيَّ صدمة في مجتمع الصحافة العالمية
لا نعرف كثيراً عن هؤلاء الصحافيين وقدرتهم الهائلة في التأقلم مع عمل صحافي يبدو شبه مستحيل في ظلّ استحالة الحياة نفسها. في سلسلة المقابلات التي أجرتها الصحافية اللبنانية الراحلة بشرى عبد الصمد، يروي صحافي فلسطيني يوميات التغطية وسط أصوات تحليق الطائرات، ويتحدّث عن النوم في الشارع أو في أيّ مكان يجده آمنا، وعن حزنه كلّما نقل مَقتَلَ طفلٍ أو عائلةٍ، وبكاءه عليهم. في قاموس الصحافة الغربية لا يوجد تعريف أو توصيف لهذه الممارسة الصحافية.
لروح هؤلاء الصحافيين السلام، من قتل منهم ومن لا يزال في قيد الحياة يناضل من أجل الاستمرار. لروح بشرى عبد الصمد، التي غطّت يوميات الحروب في لبنان إلى أن باتت عاجزةً عن العمل الميداني الخطر، السلام والتقدير. تقدير لجنة نوبل مهمّ جدّاً للاعتراف بالصحافيين الأربعة وزملائهم، إلّا أنّ الأكثر أهمّية هو الاعتراف بحقّهم في الحياة وحمايتهم من التحوّل أبطالاً ينقلون الخبر، قبل أن يتحوّلوا ضحايا.
المصدر: العربي الجديد