لا شك في أن تظاهرات السويداء قد خلقت نقطة ضوء في مسار التفسخ السائد منذ عام 2013 وحتى اليوم؛ فقد ذكَّرت السوريين بملامحهم الأولى وبالأسباب التي دفعتهم للخروج بثورتهم، وبالآليات التي ارتضوها لتحقيق أهدافها قبل أن يُجرُّوا عنوة، وينجرُّوا توهمًا أيضًا، باتجاه إمكان إحداث التغيير الوطني الديمقراطي بالسلاح والتدخلات الخارجية.
لكن، وبما أنَّ هذا الحراك قد أتى بعد نحو عشر سنوات من التوهان والدخول في زواريب مظلمة، فإن هذا الحراك “مطالب” بالضرورة، لمصلحته ومصلحة سورية كلها، بألَّا يكرِّر الأخطاء القاتلة، أو في الأحرى النهج غير العاقل الذي لا ينتج إلا الأخطاء، وأن يكون نقلة نوعية حتى على تظاهرات عام 2011 و2012، ولا سيَّما أنَّ هناك تجربة ماثلة من الإخفاقات المستمرة، وإلا فإن الحراك سيكون أمام تكرار ظاهرة “التعلُّم بالتجربة”، مثل الطبيب الذي يتعلَّم الطب بأرواح المرضى.
هناك نقاط رئيسة، في اعتقادي، ينبغي لها أن تحظى باهتمام الفاعلين في هذا الحراك، وباهتمام السوريين جميعهم، حرصًا على إنجازاته وتطويره في آن معًا، وهذا لا يأتي إلى في سياق نقد الحراك، أو في الأحرى “النقد التضامني”. هناك “خوف” شائع نسبيًا من نقد الحراك، ربما نتيجة الحرص الشديد عليه، وربما أحيانًا بسبب خوف الناقد من أن يصبَّ نقده في مصلحة السلطة القائمة، وربما في حالات معينة خوفًا من أن يُتهم الناقدون بالطائفية بحكم خصوصية الحراك النسبية في السويداء كما يرون. في رأيي إن أهم وسيلة لاحترام هذا الحراك هي نقده، ولا سيَّما إن كان هذا النقد يأتي من باب تقديره والحرص عليه.
في اعتقادي، ينبغي تجاوز السلمية السلبية إلى سلمية إيجابية لها القدرة على الإنتاج والتأثير في الواقع وتحقيق إنجازات صغيرة ومراكمتها وإرغام الخصوم على التزحزح ولو بقدر بوصة. فالسلمية لا تُختزل في كونها “ضد العسكرة والسلاح والعنف” وحسب، لأن هذا الاختزال يضع السلمية في خانة السلب، أي في خانة الفعل غير المؤثر على الرغم من جماليته والتزامه اللاعنف بصورة أصيلة. السلمية عمل سياسي تراكمي واستراتيجية عمل متكاملة، تطمح إلى توسيع الهامش والمساهمة في تغيير ميزان القوى السائد تدريجًا، وفق مراحل وخطط وسلوكيات دقيقة، فما الذي يمكن أن يفعله حراك السويداء في هذا السياق؟
أصبحت التظاهرات ذات طابع مستقر نسبيًا، أو في الأحرى باتت أقرب إلى الروتين ومسقوفة، بمعنى أنَّ هناك ما يشبه “قواعد الاشتباك” الثابتة التي لا قدرة للحراك على تجاوزها، على الرغم من “المناوشات” بين الفينة والأخرى التي يقصد منها النظام إنهاء الحراك. لقد تأقلم النظام السوري مع حدود الحراك بالصيغة الحالية ولو بصورة مؤقتة، إلى حين تغير الأحوال. مراهنته الأولى هي على تفسّخ الحراك من داخله، وفي حال لم يحدث هذا فلن يعجز عن إيجاد وسائل أخرى في مراحل لاحقة. من طبيعة النظام الشمولي الهيمنة على الفضاء العام بكليته، فهو لا يخلي أي ساحة أو ميدان أو رقعة إلا مرغمًا، ولكن بصورة مؤقتة. فعل النظام ذلك عندما سحب قواته من شمال شرق سورية ليقينه أن موازين القوى والمصالح الإقليمية ستساعده مستقبلًا في العودة إليها.
لا تكتفي السلمية الإيجابية بوضع الشعارات الكبرى، لأن هذه الأخيرة تُصاب بالبلادة من دون خطوات ومراحل وإنجازات صغيرة. تعني السلمية توسيع رقعة الهامش المتاح عبر تعميم توجهاتها وأهدافها ومشروعيتها بين السوريين في مدينة السويداء وجوارها بدلًا من ترك المترددين بانتظار تصرف النظام وخياراته، وهذا يستلزم الدخول معهم في حوار جدي وإيجابي.
بمعنى آخر؛ ينبغي لهذا الحراك أن يحظى محليًا، على مستوى السويداء وجوارها، بالرضا الشعبي، وعدم وضع خط فاصل ونهائي تجاه مؤيدي النظام والمندرجين فيه، وترك الباب مفتوحًا في كل لحظة، بما يسمح بحشد أوسع قطاع شعبي حول الحراك وأهدافه، وتجنب الإضرار بالحياة اليومية للمواطنين ومصالحهم، وإيجاد السبل الكفيلة بعدم تعطيل النظام العام.
تصبح السلمية إيجابية إن كان على رأسها قيادة واعية وعقلانية، موثوقة ومفوَّضة بالضرورة وثقلها الأكبر داخل سورية، تدرك ما بين يديها من إمكانات، وتفهم خصومها وما بين أيديهم من وسائل، وما يُتوقع منهم من أفعال، وتضع الخيارات الممكنة والملائمة لمواجهتهم سلميًا. وتصبح فاعلة إن هي أتقنت توسيع الهامش المتاح بأقل الخسائر المحتملة، وسارت في طريق الإجابة اليومية عن الأفكار والوسائل اليومية لصناعة الأمل وتعظيمه.
يُناط بهذه القيادة بناء إستراتيجيا وخطوات تكتيكية رزينة في ظل تحليل عاقل للواقع ومساراته. وهنا لا بدَّ من أخذ عدد من النقاط الرئيسة في الحسبان، في سياق بناء الرؤية التحليلية لمعرفة موقعنا والتخطيط للمستقبل. فالوضع السوري يسير باتجاه تطبيع الدول العربية وتركيا ودول أخرى لعلاقاتها مع النظام السوري، إضافة إلى أنه يتجه نحو مساعدة النظام في بسط سيطرته على كامل الأرض السورية، وهذا ليس جديدًا، فبوادره بدأت منذ ستّ سنوات على الأقل، ما يعني أن الخارج بدوله ليس في سياق دعم الحراك فعليًا. يُضاف إلى ذلك أن النظام السوري الذي كان حريصًا على صورته الإعلامية في عام 2011 وما قبله، ما عاد كذلك، ويتعامل بعدم اكتراث تجاه هذه الصورة حاليًا، ولذلك سيكون مستعدًا لفعل أي شيء لإنهاء الحراك عندما يرى أن الوقت قد حان. ومن ثمَّ ينبغي لقيادة الحراك أن تضع البشر في صورة اللحظة الراهنة ومسارات الواقع، وتحاول الإجابة عن سؤال “إلى أين؟”، أي عن المراحل المستقبلية المحتملة في المدى المنظور.
في رأيي، لا بدَّ هنا من تثبيت أربع نقاط لمواجهة المسارات المحتملة والتحديات: الأولى هي الاقتناع بأنه لا وجود لحل سريع للوضع السوري ما يتطلب سلفًا التحلي بالصبر وبناء استراتيجيات وتكتيكات طويلة المدى. والثانية هي ضرورة العمل بدلالة المجتمع السوري والمصلحة السورية العامة لا بدلالة السلطة القائمة وحسب، ما يمنح الحراك بعدًا اجتماعيًا إستراتيجيًا ضروريًا يصبح معه تغيير السلطة القائمة مسألة وقت وحسب. أما الثالثة فهي الانتقال إلى العمل السياسي بمفهومه الواسع وبناء قوى سياسية جديدة، غير أيديولوجية، لأنَّ هذا له أعظم الأثر في تنظيم البشر والسيرة خطوة باتجاه التغيير التدريجي لميزان القوى السائد. أما النقطة الرابعة فهي الاستمرار في التواصل وبناء التحالفات والمشاركات مع المجموعات السورية الأخرى على أساس سياسي يعتمد الوطنية الديمقراطية منطلقًا ومستقرًا لا على أساس ديني أو طائفي أو مناطقي… إلخ، فالسويداء وجوارها لا يستطيعان إنجاز تغيير نسبي في ميزان القوى وحدهما كما يعلم جميعنا.
في اعتقادي يمكن لقيادة الحراك إصدار وثيقة وطنية أساسية، إضافة إلى مدونة سلوك خاصة تضع محددات للخطاب السياسي والإعلامي وللأداء العملي، مع تشكيل هيئة رقابية تتابع التزامها وتنفيذها. وتحتاج قيادة الحراك، في زحمة الانهماك في التظاهرات، إلى بناء طريقة لتقويم الأداء والإنجازات أيضًا. وهنا يمكن وضع مقياس لهذا التقويم يعتمد على رصد عدد من المعايير وفق فواصل زمنية معقولة، لمتابعة الأداء والإنجازات بمرور الزمن، جوهرها تقويم وضعية الحراك وتطوره كمًا ونوعًا، ورصد الخسائر والمكاسب، وصولًا إلى الإجابة عن سؤال مفتوح دائمًا: كيف نعظم الأرباح ونقلل الخسائر؟
من هذه المعايير القابلة للقياس مثلًا: ما الإنجازات التي تحققت خلال عام/ أو شهر؟ هل توسع الحراك وتم إقناع آخرين؟ هل تراجع النظام خطوة إلى الوراء؟ هل بُنيت مؤسسات سياسية ومدنية قابلة للصمود؟ هل تم تثبيت رؤية محددة وتعميمها؟ هل بُنيت علاقات متماسكة ومنظمة مع جهات سياسية أخرى؟ ما مدى درجة التزام الحراك مدونةَ السلوك؟ ما مدى النجاح في التغطية الإعلامية للحراك؟ ما الصلات الإيجابية التي حققها الحراك على مستوى العلاقات مع الشخصيات العامة، العربية والأجنبية؟ وغيرها من المعايير والأسئلة المفيدة. تتيح عملية رصد هذه المعايير وتطورها فتح حوار تراكمي ومنظم داخل الحراك وخارجه عندما تصدر على هيئة تقرير دوري، ما يسمح بنمو حالة من المشاركة الشعبية العامة، ويفتح أمام الحراك طرقًا لتطويره، فضلًا عن توليد أفكار وآليات ووسائل جديدة كل فترة.
لا شك في أنَّ الواقع المحيط بحراك السويداء أعقد من هذا التصور الذي يكثر فيه استخدام كلمات “يجب” و”ينبغي”، ولا شك أيضًا في أنَّ هناك بين نخب السويداء الثقافية والسياسية وقادة الحراك من يطرحون على أنفسهم، وعلى الآخرين، مثل هذه الأفكار والأسئلة وغيرها، لكنها محاولة للمشاركة في الحوار الجاري، والمساهمة في بلورة أفضل الخيارات كي لا تضيع إنجازات الحراك، ولتطويره وتعظيمه وصناعة أمل سوري جديد.
المصدر: موقع صدى الجنوب
قراءة موضوعية ورؤية دقيقة للحراك السلمي للثورة السورية بعد أكثر من عشرة أعوام من دخولها بللعسكرية، ووضع خارطة طريق أمام السوريين الأحرار من أربع نقاط مهمة، من إن الحل للملف السوري طويل الأمد وإنه يجب بناءتجمع وطني لا أيديولوجي ينطلق من الوطنية والأهم استمرار التواصل بين الحراكات والقوى الفاعلة السورية.