في تهاوي جدران تونس المادّية والرمزية

محمد خليل برعومي

راهنت تونس، منذ الاستقلال عام 1956، على التعليم قاطرة للتنمية والتقدّم، واستثمرت فيه بميزانيات ضخمة، مقارنة بقطاعاتٍ أخرى، جعلته في فترات معينة ينال أكثر من 20% من ميزانية الدولة. واعتُبر التعليم أولوية وطنية مطلقة ضمن سياسات الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، فوُجهت موارد ضخمة إلى بناء المدارس وتكوين المعلمين، بهدف القضاء على الأمية وتكوين كوادر وطنية، وظل الأمر كذلك بنسب متفاوتة في الاهتمام حتى ثورة 2011 التي واجهت تونس إبانها هزّات سياسية، بوصفها ارتدادات طبيعية للتغيير، وإعادة هيكلة للسلطة ومؤسّسات عديدة. ومع ذلك، بقيت الأعين على برامج الأحزاب والسياسيين وخططهم في ما يتعلق بالمنظومة التربوية ورؤيتهم لإصلاحها وتطويرها، حيث نوقشت مقترحاتٌ عديدة في البرلمان، وسعى عدة وزراء إلى تنفيذ بعض الإصلاحات، ووجهت من التنظيمات النقابيّة برفض قاطع، ما أسفر عن مئات الإضرابات القطاعية في التعليم وتعطيل الامتحانات وتأخير مواعيدها، وحجب الأعداد التقييمية عن التلاميذ وأهاليهم، الأمر الذي سبّب أزمة ثلاثية معقدة بين الدولة والنقابات والعائلة التونسية، التي تولي تعليم أبنائها أولوية قصوى في سلم اهتماماتها ومشاغلها، وتراه أسرٌ عديدة من الطبقتين، الفقيرة والوسطى أيضاً، المصعد الاجتماعي الأوحد لها ولأبنائها.

تعدّدت المطالب النقابيّة لممثلي قطاع التربية والتعليم في تونس طوال عشرية الديمقراطية، بين الانتداب الرسمي للأساتذة النواب، والترفيع في الرواتب، وطلبات تحسين ظروف العمل وغيرها من مطالب مشروعة، ولكنها تحولت إلى شجرة تخفي خلفها غابة من الإشكالات التعليمية العميقة والمركّبة المسكوت عنها، وأهمها كيفية تعصير التعليم وتطوير مناهجه وتوفير البنية التحتية الضرورية لذلك، وزاد الطين بلة في تعقيد الملف وتعطيل أي محاولةٍ لإجراء حوار فعّال بين الأطراف المعنية به، استعمال النقابات للتلاميذ رهائن وابتزاز الدولة والسلطة بمسارهم الدراسي. ونتيجة لذلك، ارتفعت أرقام مرتادي المدارس الخاصة في السنوات الماضية، كما تصاعدت مؤشّرات عدم الثقة في المدارس العمومية، التي طالما كانت مفخرة لتونس.

كان رئيس نقابة التعليم في تونس التابعة للاتحاد التونسي للشغل، لسعد اليعقوبي، أشدّ الخصوم للسلطة ولكل الوزراء المتعاقبين على وزارة التربية طوال عشرية الثورة. من جهة أخرى، كان أيضاً من بين أهم الأسماء الداعمة انقلاب 25 يوليو (2021) والإجراءات الاستثنائية التي بمفعولها تحوّل السلوك النقابي في البلاد من حال إلى آخر، أو فلنقل من نضالٍ مستعرٍ بلا حد أو عد إلى تهليل وتبرير وموت سريري في أحسن الأحوال.

منذ انفراد الرئيس قيس سعيّد بالسلطة أصبح الاهتمام بمشاغل التونسيين التنموية والاقتصادية ترفاً سياسياً

عجزت المؤسّسات في طور التحول الديمقراطي عن صياغة رؤية وطنية جامعة لإصلاح المنظومة التعليمية في تونس، ثم تنفيذها، إلا أنها تمكّنت من خلال تركيز نظام حكم يقوم على لا مركزية السلطة وتفعيل أدوار الجهات عبر المجالس الجهوية للتنمية، خاصة إرساء سلطات محلية منتخبة قريبة من مشكلات التونسيين، وتعمل بموازنة مالية خاصة، وفق مبدأ التدبير الحر، وتخطّط مشاريعها وفق مقاربة تشاركية مع سكان المحليات، بحسب ما نصّت عليه مجلة الجماعات المحلية في دستور 2014، نجحت من خلال ذلك في تنفيذ بعض المشاريع، كتعبيد الطرقات وتهيئة المسالك وربط أحياء ومنازل بشبكة مياه الشرب الرسمية، وكذلك في تهيئة بعض البنى التحتية واستصلاحها، منها المدارس. ويذكر أيضاً أن اعتماد السلطة آنذاك على مقاربة تشاركية مع المجتمع المدني ساهمت في إنجاز منظّمات وجمعيات لمشاريع عديدة، ولا سيما في الجهات الداخلية والمهمّشة، تمثلت في بناء مدارس ومراكز صحية وثقافية أو إعادة تهيئتها، والإشارة هنا إلى الأرقام الواردة في تقارير جمعية مرحمة على سبيل الذكر لا الحصر.

منذ انفراد الرئيس قيس سعيّد بالسلطة وإلغائه بقية المؤسّسات، منها المجالس المحلية المنتخبة، وشيطنته المنظّمات الأهلية والتضييق عليها، ثم تغيير الدستور ومركزة كل أدوات الحكم والقرار في قصر قرطاج، أصبح الاهتمام بمشاغل التونسيين التنموية والاقتصادية ترفاً سياسياً إذا ما تحدّثنا عن حرب التحرير التي يقودها الرئيس بحسب وصفه، يسخّر لها كل الوقت والموارد والإمكانيات، حتى إن أجهزة الدولة صار اهتمامها بجدران حسابات المعارضين والنشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي أهم من عنايتها بجدران المدارس المتساقطة على رؤوس التلاميذ، مثل ما حدث، أخيراً، في مدرسة بمنطقة المزونة في سيدي بوزيد وموت ثلاثة شبان في مقتبل العمر، رغم إشعارات مدير المؤسسة المتكرّرة بخطورة الوضع داخل المدرسة وفي محيطها.

تهاوي مؤسّسات الدولة الديمقراطية واستهداف الحريات وإلغاء السلطات التشريعية والقضائية وتحويلها إلى وظائف

سقط جدار المدرسة منذ تهاوي مؤسّسات الدولة الديمقراطية واستهداف الحريات وإلغاء السلطات التشريعية والقضائية وتحويلها إلى وظائف، وليس في هذا مبالغة أو متاجرة سياسية كما يدّعي بعضهم، لأن دولة الفرد تتناقض جوهرياً مع دولة المواطنة، بما تحمله القيمة من حقوق سياسية واقتصادية واجتماعية وتنموية، مهما تزيّنت بالخطابات الشعبوية، ومهما تحقق من الوعود، التي إن تحققت، تكون عادة ركائز لمزيد من تثبيت أركان النظام الشمولي ومدّ أذرعه، وليس في إطار سياسات عمومية أو خطط إصلاحية. في مقابل ذلك، تعد دولة المؤسّسات والسلطات المستقلة، ومنها القضاء، حاضنة لقيمة المواطنة ومناخاً خصباً لممارستها بمفهوم الحق والواجب، ودافعاً للتطوّر والتقدّم والازدهار مهما تعدّدت الأخطاء والنقائص، التي لا يخلو منها فعل بشري، ولكن ما يحسب للديمقراطية أن سياسات الحكام تخضع فيها لرقابة البرلمان والهيئات والإعلام، وتقوّمها العدالة وتصححها صناديق الاقتراع.

كان سقوط جدار مدرسة على تلاميذ في تونس تعبيراً تراجيدياً عن حالة الهدم التي تعيشها تونس منذ يوليو/ تموز 2021، هدم المسار الديمقراطي والقيم والقوانين والأحلام، وانتصار الجهل المسنود بالقوة على عقول السالكين دروب المستقبل… ومن المفارقات أن سقوط جدار المدرسة في منطقة المزونة المهمّشة جاء في سياق وعود الرئيس بالبناء والتشييد خلال فترة رئاسته الثانية، كما أن ادّعاءه ملاصقة هموم شعبه قابله زيارة فجرية للمنطقة، بعد يومين من الاشتباكات بين السكان والأمن، من دون تقديم واجب العزاء لأهالي الضحايا المكلومين، بل استغل حضوره على الركح (المسرح) المعد سلفاً بجمهوره وعناصره لشتم المعارضة والتوعد بكنسها وإعلام الحاضرين أنه متعبٌ مثلهم، منتظراً سماع اعتذار من هنا أو هناك لما يسببه له الشعب من متاعب ووجع رأس.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى