إسرائيل لن تلتزم بتنفيذ أي اتفاق يبرم بصورة كاملة وأمينة وأهدافها تتجاوز غزة ولا تتسق مع قرار مجلس الأمن.
على رغم وجود بعض الجوانب التفصيلية معلقة، فالمشكلة ليست في تفاصيل الاتفاق إنما في تباين استراتيجي حول فكرة التوصل إلى اتفاق من عدمه، إذ لا يريد نتنياهو التهدئة ويتعمد الاستمرار في خلق نقاط تنازع
صدر بيان ثلاثي مصري قطري أميركي يوم التاسع من أغسطس (آب) الجاري دعت فيه تلك الدول إلى استئناف مفاوضات الوساطة بين حركة “حماس” وإسرائيل حول الوضع في غزة، وتحقيق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والمحتجزين والاتجاه نحو التعامل مع أوضاع القطاع وإعادة بناء البنية الأساس لتمكين الفلسطينيين من العودة إلى ديارهم، وانسحاب القوات الإسرائيلية.
وفي ضوء حدة النزاع الأمني بغزة والخسائر الإنسانية الجسيمة وتداعياته الإقليمية الخطرة المحتملة، مع تفاقم النزاع وامتداده إلى ساحات أخرى في لبنان والخليج العربي والبحر الأحمر ومع تكاثر الأطراف، تحركت الأطراف الثلاثة مجتمعة على رغم عدم تطابق تقديراتهم بالنسبة إلى من يتحمل المسؤولية وتباين مواقفهم عن ردود الفعل المقبولة منهم في حال تفاقم الأمور.
مصر وقطر على رأس أولوياتهما إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني في غزة ولديهما قناعة أن المشكلة الأولى في مواقف نتنياهو، حتى وهما تحثان “حماس” على إظهار مزيد من المرونة ولا تحبذان تصعيد الأمور مع إيران وترفضان المشاركة في أي تحالف ضدها.
وفي المقابل، تضع الولايات المتحدة المسؤولية الرئيسة على “حماس” وإيران ووفرت سلاحاً وعتاداً للتصدي لأي رد فعل لاغتيال إسرائيل إسماعيل هنية على الأراضي الإيرانية، وأرسلت سفناً وغواصات إلى المنطقة على أمل ردع إيران كلية أو تحجيم رد فعلها وتجنب خسائر إسرائيلية كبيرة، إذ لا تريد الإدارة الانغماس في عمليات عسكرية جديدة أثناء الانتخابات الرئاسية وتخشى أن تفرض عليها الأحداث ذلك باعتبار أنها لن تستطيع تجاهل أو السكوت عن عمليات عسكرية إيرانية إذا أصابت أهدافاً إسرائيلية جوهرية، لأن السكوت يعرضها لانتقادات شديدة من مؤيدي إسرائيل.
ومن المستجدات وغير المعتاد دبلوماسياً أن الدول أعلنت مسبقاً أنها ستتقدم باقتراحات محددة للتغلب على التباين في المواقف بين إسرائيل و”حماس” إذا لم يتوصل الطرفان إلى اتفاق يتعامل مع الوضع الشائك في غزة، وهو من جانب يعد تحذيراً صريحاً بل تهديداً ضمنياً لطرفي النزاع بأن المجتمع الدولي لم يعد يقبل باستمرار الأوضاع ويخشى تفاقمها إقليمياً ودولياً.
ومع تفهمي وتقديري لرغبة الدولة الثلاث في تحريك الموقف آمل أن يكون هناك تفهم مسبق وواضح بينها أن اقتراحاتها لن تخرج عن إطار ما تضمنه قرار مجلس الأمن رقم 2735 يوم الـ10 من يونيو (حزيران) الماضي حول غزة والمقدم أصلاً بمبادرة أميركية، لأنني لا أستبعد قيام الولايات المتحدة ذاتها بمحاولة الضغط على شركائها العرب من أجل إضعاف بعض الصياغات وطرح حلول وسط مقبولة لإسرائيل، خصوصاً أن هناك التزاماً أميركياً لإسرائيل منذ عهد هنري كيسنغر بعدم تقديم اقتراحات حول المنطقة قبل اطلاعها عليها.
واستؤنف بالفعل الجهد المبذول في الدوحة يوم الـ15 من أغسطس بحضور إسرائيلي وغياب مباشر من “حماس” التي تتابع الأمور من بعد، بعد أن أعلنت أنها على استعداد للاشتراك في وضع خطط تنفيذية لما سبق الاتفاق عليه منذ أشهر، وإنما ترفض فتح الباب على مصراعيه لمفاوضات لا تنتهي تعطي غطاء سياسياً للاحتلال الإسرائيلي، وعقدت أولى الجلسات بعد أن انصب الاهتمام بدرجة كبيرة خلال الأيام الأخيرة على التوصل إلى توافق على أمل تجنب توسع النزاع بعد التوتر مع إيران، وهو تطلع عقلاني بشرط ألا يدفع الأطراف الثلاثة إلى إغفال أن الهدف الأصلي من هذا الجهد هو تفعيل الأفكار التي طرحها بايدن على أساس أفكار إسرائيلية.
ويعتقد كثر أن العقبات الرئيسة أمام التوصل إلى اتفاق هي اختلافات حول بعض الجوانب التفصيلية، منها تسلسل وترتيب تبادل الأسرى والمحتجزين وعدد المحتجزين المفرج عنهم ومساحة الأرض التي تنسحب منها القوات الإسرائيلية في غزة، وتردد أن الدورة الأخيرة الفاشلة من المفاوضات شملت طلبات إسرائيلية إضافية حول وضع آليات لتجنب عودة مسلحين إلى غزة وتمسك إسرائيل باستمرار سيطرتها العسكرية على ممر فيلادلفيا المجاور للحدود المصرية.
وعلى رغم وجود بعض الجوانب التفصيلية معلقة فإن المشكلة ليست في تفاصيل الاتفاق إنما في تباين استراتيجي حول فكرة التوصل إلى اتفاق من عدمه، إذ لا يريد نتنياهو التهدئة ويتعمد الاستمرار في خلق نقاط تنازع، كان ذلك على المسار الخاص بغزة وبالنسبة إلى المنطقة الأوسع والأوضاع مع إيران باعتبار أن القلق هو أقوى عامل جذب وتوحيد في الساحة الإسرائيلية.
وإذا اضطر نتنياهو للموافقة على التوصل إلى اتفاق مع “حماس” لتجنب التصادم مع الولايات المتحدة أو من أجل تخفيف ضغوط عائلات الأسرى الإسرائيليين، فلن ينفذ سوى بعض أجزائه وسيواكب ذلك مزيد من العمليات لتصعيد المواجهة مع إيران باغتيالات خاصة بـ”حزب الله” وعمليات ضد الجنوب اللبناني، للحفاظ على مناخ التوتر شرق أوسطياً.
ومن اللافت أن الأيام القليلة السابقة على بدء مفاوضات الوساطة شهدت تراشقاً بين رئيس وزراء إسرائيل ووزير دفاعه، اتهم فيها الوزير بأنه يتبنى نظريات معادية لإسرائيل، لأنه وصف طموح نتنياهو بالقضاء كلية على “حماس” بأنه طرح عبثي وهو ما انتهت إليه بعض المراكز البحثية الأميركية بالاشتراك مع “سي أن أن”، بعد أن تبين أن معدلات تجنيد “حماس” لكوادر جديدة مرتفعة للغاية، وكانت هناك أخبار وتسريبات إسرائيلية بأن الوفد التفاوضي الإسرائيلي ضغط على نتنياهو قبل السفر إلى الدوحة لتليين موقفه.
وامتدت اجتماعات الوساطة على مستوى كبار المسؤولين يوماً ونصف اليوم ووصف بيان ثلاثي مشترك بعد انتهائها بأن المناخ العام كان إيجابياً، واتفق على عقد اجتماعات على مستوى الفنيين بالقاهرة هذا الأسبوع مباشرة، للتباحث حول بعض الجوانب التفصيلية والتنفيذية.
التوصل إلى اتفاق هو الخيار الأفضل طالما كان على أساس عناصر قرار مجلس الأمن 2735، لأن إغفال أي من عناصره يخل بتوازن دقيق ويخدم دائماً الطرف الأقوى على الأرض وهو الطرف الإسرائيلي المحتل، ولا مانع أن يؤدي أي نجاح إلى تهدئة إيران وضبط رد فعلها لاغتيال هنية، إنما القضية الرئيسة هي الأزمة في غزة ويجب أن تظل لها الأولوية.
وأضيف إلى ذلك أنني لا أرى أن التوصل إلى اتفاق في حد ذاته أمر كاف، لأن إسرائيل لن تلتزم بتنفيذ أي اتفاق يبرم بصورة كاملة وأمينة وأهدافها تتجاوز غزة ولا تتسق مع قرار مجلس الأمن.
ولذا أرى من الأهمية خلق آلية لمتابعة تنفيذ ما يتفق عليه، وأن يكون هناك استعداد من الأطراف الثلاثة على اتخاذ مواقف قوية جماعية أو منفردة إزاء فشل المفاوضات في ضوء خطورة الموقف وجسامة الجرم، وكذلك على محاسبة أي طرف يرفض الاقتراحات المقدمة منها أو لا ينفذها بأمانة نصاً وروحاً، واستمرار الخروج عن الشرعية أو تجاهل للاقتراحات من الدول المبادرة من دون حساب أو رد فعل.
هذا وأعتقد أن الفشل في تنفيذ ما يتفق عليه أو التعثر في إبرام اتفاق بعد المبادرة الثلاثية يخلق دوامة ممتدة في قطاع غزة وينتقص من صدقية الأطراف الثلاث وكذلك من صدقية أي جهد دبلوماسي مستقبلي، كان ذلك حول النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي أو فيما يتعلق بأمن واستقرار الشرق الأوسط، وهو ما يضع المنطقة كلها على فم البركان.
المصدر: اندبندنت عربية