قراءة في رواية: دوار الحرية

أحمد العربي

مالك داغستاني معتقل سوري سابق. على خلفية انتمائه لحزب العمل الشيوعي. حيث اعتقل في سجن صيدنايا لما يزيد عن ثماني سنوات في أواخر الثمانينات وبداية التسعينيات من القرن الماضي…

نص “دوار الحرية” التي يسميها مالك “لعبة” هي عبارة عن نص كان كتبه مالك داخل معتقل صيدنايا نفسه…

دوار الحرية هي عبارة عن نص قصير ٧٥ صفحة يمثل حالة من المناجاة النفسية الذاتية التي يعيد من خلالها مالك إعادة صوغ حياة كاملة في مواجهة اللا حياة حيث يعيش في صيدنايا…

المرأة هي الحاضر الأول والأخير في دوار الحرية. حيث يستدعيها كل الوقت. يسترجع عشوائيا ودون ضابط من ذاكرته الانثى المفتقدة. الانثى الذات الأخرى المكملة والتي بحضورها تعطي للحياة المعنى المفتقد في المعتقل حيث يسجن مالك.

لا يتحدث مالك ابدا عن واقع معتقله. يمر عابرا على أنه معتقل. وانه تمت محاكمته. وانه ربط مع غيره بجنزير المساجين في ذهابهم وإيابهم الى المحكمة. كل ذلك يمر عرضا وعلينا نحن كقراء أن نفهم المقصود…

المرأة في دوار الحرية هي الأنا مكتملة، فالرجل دون المرأة ناقص ولا معنى لحياته. يكتشف الرجل بالسجن والمعتقل معنى أن يفتقد المرأة، فهذا يعني أنه يفتقد ذاته. لذلك كانت المرأة الانثى حاضرة كل الوقت في ذات مالك وعقله ومشاعره. يستحضر بعضها من طفولته. ويتذكر كيف كبرت معه مشاعر الذكورة في مقابل انوثة من كانت قريبة منه. وكيف غامرا بالتقصي عن معالم جسديهما. وكيف كان حضور امه. التي لم تتقبل ذلك لكن مررته. لتكبر داخله الحاجة للمرأة ومعايشته لها. من خلال استدعاء انثى في حديقة ما تحت أشجار وارفة مخفية لمن تحت ظلها. وكيف تطور اكتشافه لجسد المرأة. لقد توسع في بوحه العاطفي والجسدي وحتى استدعاء الجنس بعد ذلك مع أنثاه التي استرجعها من ذاكرته أو خلقها من حاجته لها…

وهكذا وعبر دوار الحرية كنص واحد مستمر دون انقطاع. يستمر مالك في استرجاع الانثى والعيش معها وممارسة طقوس التفاعل الجسدي بكل تفاصيلها الى درجة الإيحاء بالعمل الجنسي الكامل بينه وبينها…

نعم ها هو مالك ينتصر لحريته وإنسانيته. من خلال مغادرة السجن والسجان والحرمان. عبر استحضار الاناث النصف الآخر المفتقد. نفسيا و شعوريا، بحيث يلغي سجنه ويعيش حريته. في اسمى حضور لها. لقاء الحبيب والتعايش الجسدي معه حتى التوجد الجنسي…

قصد السجن والسجان حرمان السجين من الحرية، ومن التواصل مع الآخرين. وخاصة المرأة النصف المكمل في الوجود.

لكن السجين يستعيد حريته رغما عن جدران السجن وعن ظلم السجان. ويستعيد حريته من اوسع ابوابها. وهي استحضار المرأة التي منها يكون بدء الوجود. واليها تصبو النفس. ومعها يكتمل الوجود الإنساني ذكر وانثى. واحتياج متبادل وتوحد ولذة وسمو وتحقيق الخلود والاستمرارية…

رسالة دوار الحرية واضحة وبسيطة وناصعة:

 لن تستطيع يا سجّاني ان حجزت جسدي. وعذبتني وظلمتني وحرمتني من كل شروط انسانيتي عبر سلبك لحريتي. لن تحجز عقلي ومشاعري فما استحضر لألغي وجود سجنك. وسجانك وتعذيبك وافعالك كلها. أحلق عاليا في سماء الحرية. نفسي ومكملها الانثى سر الوجود والنور المضيء فيه. بوابة الحرية والمعنى والخلود…

هذا ما أراد مالك داغستاني أن يقول عبر دوار الحرية. ونحن هنا في تعقيبنا لن نختلف مع ذلك. هدف السجان ليس فقط أن يحجز حريتك. بل ان يضرب نزوعك الانساني نحو الحرية والعدالة وصون الكرامة الإنسانية وبناء الحياة الأفضل. وان تقبل التفاوت والظلم والاستبداد والمحسوبية. وان تعيش واحدا من قطيع المظلومين المستكينين. لأن ثمن طلب الحرية غالي. ولان من يعمل للتغيير قد ندر نفسه لقضية عظيمة. فأول ما سيفعله هو أن لا يحقق هدف المستبد المجرم. وهو أن ينهار السياسي المعارض ويستسلم للنظام ويعود واحدا من القطيع المجتمعي. اول شروط الصمود ان تتقبل واقع الاعتقال وحجز الحرية. وان تتجاوزه ذهنيا و شعوريا وان تمتلئ بكل ما يجعلك تستعيد توازنك النفسي في هذا الحال الظالم للسجن والاعتقال والاحتجاز وما يصاحبه.

استحضار المرأة النصف المكمل. الوجود بأسمى معانيه . الإشباع الجسدي والنفسي. كل ذلك لحماية السجين لذاته وللصبر على سنوات سجنه. ليخرج بعد ذلك مكملا مسيرته نحو تحقيق الحرية له ولكل الناس…

هكذا يفكر النظام والمعارض السياسي وبينهما حرب طويلة مستمرة…

ستحصل الثورة السورية بعد عقدين تقريبا من اعتقال مالك داغستاني وتحقق بعض ما طلبه وغيره من المعارضين. إن الشعب ثار وطالب بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل. وإن سنوات مرت على ذلك ومازالت التداعيات تتوسع… وما زالت الثورة حق مشروع.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية “دوار الحرية” للمعتقل السابق والكاتب “مالك داغستاني” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” الرواية كتبها بالمعتقل وثم أعاد صياغتها ونشرها الكاتب .

زر الذهاب إلى الأعلى